جنون العبقرية
اذا رأيتم رجلا يمشي في الطريق منفوش الشعر ، شارد النظر ، قد لبس معطفه على القفا
ومشى على غير هُدى ... قلتُم إنه ( مجنـــــون ) ... وقد يكون ( مجنـــونا)
ولكنه قد يكون فيلسوفا .. أو شاعرا .. أو رياضيا ...!!!!
وإذا سمعتم أن رجلا لا يُفرّق بين السراويل والقميص ، ولا بين الجمعة الخميس ،
قلتم إنه ( مجنون ) ..
اناتول فرانس
ولكن ( أناتول فرانس ) ، والعُهدة على الراوي ( جان جاك روسّو ) دُعيَ إلى وليمة يوم الأحد
فذهب يوم السبت ، ولبث ينظر مُتعجّبا من تأخر الغداء ، ولبثت ربّة الدار تنظر مُتعجّبة
من هذه الزيارة المُتفاجئة ، ثم لم يرضَ أن يُصدّق أنه يوم السبت .....
فهل كان ( أناتول ) نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر ، مجنونا ؟!!!
ابو حامد الغزالى
وإذا شاهدتم رجلا يعتزل في كوخ ، أو ينفرد في غار ، ولا يُقبل على الدنيا ، ولا
يكلم الناس قلتم إنه ( مجنون ) ،
ولكن " الغزالي " عاف الدنيا وقد اجتمعت له ،
والمجد وقد أقبل عليه ، والرياسة وقد أتَتْه مُنقادة تسعى إليه ، وحبس نفسه في منارة
الجامع الأموي في دمشق ، فهل كان ( الغزالي ) حجة الإسلام وعلم الأعلام ... مجنونا ؟!!!
الجاحظ
وإذا بلغكم أن إنسانا نسيَ اسمه قلتم إنه ( مجنون ) ،
ولكن ( الجاحظ ) نسيَ كُنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلُقياها ،
فقال له : أنت أبو عُثمان !
فهل كان ( الجاحظ ) عبقري الأدب ، ولسان العرب ، ... مجنونا ؟!!!
نيوتن
و" نيوتن " ... وقد كانت في داره قطّة ، كلما أغلق عليه بابه ، وقعد إلى مكتبه ومباحثه
أقبلت تُخرمش الباب وتخشخش بأظفارها فتُشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها ، فلمّا
طال عليه الأمر .. كدّ ذهنه ، وأطال بحثه ، فاهتدى إلى المَخلص ... ففتح في أسفل
الباب فتحة تمرّ منها فاستراح بذلك من شرّها ....ثم وُلد لها ثلاث قٌطيطات .. ففتح لكل
واحدة فتحة .....!!!! لم يستطع هذا العقل الكبير الذي وسَع قانون الجاذبية
أن يَتّسع لحقيقة صغيرة هي : أن الفتحة تكفي القطّة الأم وأولادها !!!!!!
هنري بوانكاريه
و " هنري بوانكاريه " ... وقد دعا قوما إلى وليمة في داره ، وضرب لها الساعة
السابعة موعدا ، فلمّا حلّ الموعد وجاء القوم ، كان مشغـــولا ... فدَعوه فلم يسمع ،
وألحّوا عليه فلم ينتبه ، وكانوا يعرفون شذوذه ، فأكلوا وانصرفوا ... وقام بعد ساعتين
فأمّ غرفة المائدة ، فرأى الصحون الفارغة والملاعق المُستعملة وبقايا الطعام ..
فجعل يُفكّر : هل أكل ، أم هو لم يأكل ؟؟
ثم غلب على ظنّه أنه قد أكل ، فعاد إلى عمله !!!!!!
عبد المسيح وزير
وصديقنا اللغوي العراقي " عبد المسيح وزير " ... وقد دخل مرّة غرفة ليست بغرفته
في وزارة الدفاع ، وكان ( طاب ذكره ) من كبار موظّفيها ، فرأى أثاثها على خلاف ما كان يعهد ،
فغضب ودعا الفرّاش ، وقال له : حوّل هذه المنضدة ، انقل هذا الهاتف ،
اعمل كذا .. افعل ذاك ... فلمّا استوت له كما يُريد ، نظر فقال :
أهـــــذه غُرفتي ؟؟!!
قال الفرّاش : لا يا سيّدي .
فانتقل إلى غرفته !!!!!!
وكُنّا نزوره أنا وانور العطّار ، فدعا لنا مرة بشاي وتدفّق بالحديث ، وهو يشرب كأسه ،
فلمّا فرغت ، وضعها وتناول كأس الأستاذ العطّار فشربها ، وثلّث بكأسي ، فلمّا
جاء الفرّاش يأخذ الكؤوس ، قال :
سألتكم بالله ، هل تريدون كأسا أخرى ؟!!!!!!!!
......................
أفكان كل هؤلاء ، وفيهم كل عبقريّ علم ، وكل نابغة إمام ...
أكانوا كلهم مجانين ..؟؟؟؟
أمّا في رأي العامّة ، فنَعم ..!!!
ذلك لأن القافلة تمشي ، فمن سايّرها عدّه اهلها عاقلا ، ومن تقدّم عنها يسلك
طريقا جديدا .. قد يكون أقرب وآمن ، عدّوه مجنونا ، كَمَن تأخّر عنها ليتيه في مجاهل الصحراء !
لكن ذاك ( جنون ) العبقريّة ، وهذا جنون المارستان !
إن العبقريّ شغل بالعلم فكره كله ، فلم يبقَ منه شيء لفهم الحياة ،
فصار عند أهلها ( مجنونا ) !
نُقل من كتاب :: صور وخواطر :: للمُبدع الشيخ : علي الطنطاوي – رحمه الله