أولاً : جاء في كتاب (( الجواب الكافي )) لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره :
واللَّه سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس، وهم قوم لوط والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره اللَّه عليه ، فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع ، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة ، ومع هذه الدواعي كلها فقد آثر مرضاة اللَّه وخوفه ، وحمله حبه لله على أن يختار السجن على الزنى فقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] . وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وأن ر به تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن ، صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة
والطائفة الثانية ، الذين حكى اللَّه عنهم العشق ، هم اللوطية كما قال تعالى : { وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ - وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ - قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ - قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 67 - 72 ] ، فهذا من العشق .
فحكاه سبحانه عن طائفتين : عشق كل منهما ما حرم عليه من الصورة ، ولم يبال بما في عشقه من الضرر .
وهذا داء أعيا الأطباء دواءه ، وعز عليهم شفاءه ، وهو واللَّه الداء العُضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره ، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره ، وهو أقسام :
تارة يكون كفرًا ، كمن اتخذ معشوقه ندًّا ، يحبه كما يحب اللَّه ، فكيف إذا كان محبته أعظم من محبة اللَّه في قلبه ؟ فهذا عشق لا يغفره اللَّه لصاحبه ، فإنه من أعظم الشرك ، واللَّه لا يغفر أن يشرك به ، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك ، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري ، أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه ، وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحق ربه ، وطاعة ربه ، وطاعته قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه ، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه ، وبذل لربه - إن بذل - أردأ ما عنده ، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه - إن أطاعه - الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته .
فتأمل حال أكثر عشاق الصور ، هل تجدها إلا مطابقة لذلك ؟ ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم وإيمانهم في كفة ، ثم زن وزنًا يرضي اللَّه ورسوله ويطابق العدل ، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه .
ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك ، وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه ألبتة ، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله ؛ فصار عبدًا مخلصًا من كل وجه لمعشوقه ، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبوديته لمخلوق مثله ، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع ، وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه ، فقد أعطاه حقيقة العبودية .
ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة ، فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكم أمثاله ، ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك .
وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول : لأن أبتلي بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إليَّ من أن أبتلي فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن اللَّه .
يتبع