كانت جميلة، وكانت تحب زوجها، فقالت له يومًا: إذا مات الرجل وصبرت امرأته، فلم تتزوج من بعده فهي له في الجنة، وكذلك المرأة، فهيا بنا نتعاهد وأنا أعاهدك ألا أتزوج من بعدك أبدًا.. انتظرت أن يُعاهدها لكنَّ زوجها كان له رأي آخر قال: تزوجي بعدي، ثم دعا "اللهم ارزقها زوجًا خيرًا مني ولا يُحزنها ولا يُؤذيها".
ذكَّرني هذا الموقف بزوجةٍ قالت يومًا لصديقتها "يا رب يموت زوجي قبلي، فأنا أعرف عينه الفارغة وعدم وفائه، أعرف أنه سيتزوج غيري بعد أيامٍ قلائل إن متُ أنا قبله".
وذكَّرني هذا الموقف بقصة زوجة قاسية متعبة، صبر عليها زوجها طمعًا في رضا الله حتى ماتت، فرآها في المنام تُغيظه وتقول: أنا وراءك في الآخرة سنلتقي، فقام فزعًا وصاح بأعلى صوته: أُشهدكم أيها الناس أنها طالق طالق طالق وإن ماتت.
ونعود إلى أبطال قصتنا كان اسمه عبد الله بن عبد أسد، وكان اسمها هند بنت أبي أمية.. كان عبد الله ابن عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسلم مبكرًا، واستجابت زوجته لدعوةِ الله تعالى؛ فأسلمت واشتهرا باسم أبو سلمة وأم سلمة، ثم هاجر معًا إلى الحبشة؛ استجابةً لأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وهكذا كل زوجة صالحة تكون شريكةً لزوجها في الطاعة، وتصبر وتعينه على الصبر.
وبعد فترةٍ سمعا أنَّ الحال في مكةَ قد تغيَّر فعادا إليها بعد أن ظنَّا بها الأمان لكنهما فوجئا أن حال المسلمين لم يتغير، بل ازداد الكفار اضطهادًا لهم، فأمرهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة فكان أبو سلمة وابنهما أول المهاجرين إلى المدينة.
تعنت الأهل وتعاسة الأبناء
لكنَّ الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، ويأتي الاختبار الأول فيخرج أصهار أبو سلمة ليمنعوهم من الهجرة، لكنهم يأبون الاستسلام، ويرفضون الانصياع لهم، فيقول أصهار أبو سلمة له: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذا؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا زوجته منه فيخرج أبو سلمة مهاجرًا وحده.. وتتجرَّع أم سلمة ألم الفراق، لكن الأحزان لم تنتهِ بعدُ، فيأتي آل أبي سلمة يغضبون له، ويقولون: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا.
وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلفوا يده وذهبوا به.
وهذا ما قد حدث؛ فقد يصبح الأهل سببًا في تعاسة الأبناء وخراب بيوتهم، فهذه حماة تشاكس زوجة ابنها، وهذا حماة تُحرِّض ابنتَها على زوجها، وهذا أب يُدمِّر حياة ابنته، كما حدث يومًا حين أصرَّ أب أن يكتب زوج ابنته "وصولات" أمانة وقائمة قبل الدخول بها، وكان يقول إن في هذا حمايةً لها وصونًا لحقوقها، فحدث خلاف انتهى بالفراق قبل الزفاف بأيام.
صبر وفرج
وكانت الصدمة قاسية على السيدة أم سلمة؛ فكانت تخرج كل غداةٍ بالأبطح نفس المكان الذي افترقت فيه عن زوجها وابنها تبكي حتى تُمسي، وظلت على ذلك نحو سنة، وهي صابرة على هذا الابتلاء المر.
حتى رقَّ أخيرًا أحد ذويها لحالها فقال لأهلها: ألا تخرجون هذه المسكينة، لقد فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئتِ.
ثم تستعيد ابنها من أهله؛ لأن سبب حجزه عنها قد زال، فها هي مهاجرة إلى زوجها، وضعت الصابرة ابنها في حجرها، وركبت إلى المدينة المنورة لتلحق بزوجها وما معها أحد.. ولنتخيل الموقف أنتِ تسافرين لا بالقطار ولا في طائرة، ولكن على بعيرٍ في الصحراء وحدك ومعك طفلك، ولا تدرين أين هي الطريق!!.
لكنَّ الله تعالى أخبرنا أنه ولي الصابرين، وها هي الحلقات حلقات الضيق تنفتح واحدة تلو أخرى، وما يلقاها إلا الصابرون، وإنَّ مع العسير يسرًا.
يلقاها العربي الشهم عثمان بن طلحة في التنعيم، وكان مشركًا في ذلك الوقت، فيقول لها والله مالكِ مترك.
فينطلق بها إلى المدينة، وتشهد أم سلمة رضي الله عنها أنها لم تر مَن هو أكرم منه خلقًا، ثم يصل بها إلى قباء، ويقول: إنَّ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركةِ الله، ثم يتركها وينصرف إلى مكةَ.
وأخيرًا يجتمع الأحباب، لكنها الدنيا عمر السعادة فيها قصير، فها هو أبو سلمة يُجرح جرحًا خطيرًا في غزوة بدر بعد أشهر قلائل من السعادة لم شمل الأحبة، ثم تجدَّد عليه جرحه حين خرج لقتال بني أسد بعد غزوة بدر مباشرةً، ويحضره النبي- صلى الله عليه وسلم- ويظل يدعو له بالخير حتى مات فأسبل بيده الكريمة عينيه، وصلَّى عليه صلاة الجنازة، وكبَّر عليه تسع تكبيرات، فقيل يا رسول الله: أسهوت أم نسيت؟ فقال: "لم أسهَ ولم أنسَ، ولو كبرت على أبي سلمة ألف تكبيرة لكان أهلاً لذلك".
ثم قدَّم العزاء لأم سلمة وقال لها: "قولي اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".
فقالت في نفسها: ومَن يكون خيرًا من أبي سلمة؟!.
لقد فقدت زوجها الحبيب الذي لم تكن لها في الدنيا غيره، كانت حزينة، لكنها صبرت ورددت الدعاء الذي علَّمها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتمر الأيام فيتقدم لها أبو بكر ثم عمر لخطبتها، لكنها رفضت، ثم خطبها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتزوجها فكان عاقبة صبرها خيرًا.
لقد استجاب الله تعالى دعاءها "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها"، ولقد استجاب الله دعاء زوجها أبو سلمة: "اللهم ارزقها زوجًا خيرًا مني، ولا يُحزنها ولا يُؤذيها".
وهذه القصة هدية:
1- لكل مَن أخَّرت زواجها؛ لأنها لم تجد صاحب الدين والخلق بعد: فاصبري ولا تعجلي بالزواج من شخصٍ بعيدٍ عن الدين يُبعدكِ عن الله.
2- لكلِّ مَن صبرت على طاعةِ زوجها فيما لا يغضب الله تعالى، وإن تنافي ذلك مع اعتدادها بالرأي وكل الأفكار التي تربَّت عليها.
3- لكل مَن صبرت على عدم مشاركة زوجها في معصية إن كان بعيدًا عن الله.
4- لكل مَن بلعت كلمة غيبة ملحة كادت تقفز من حلقها في حقِّ زوجها، كما يحلو لكثيرٍ من النساء، حين يذكرن أزواجهن بسوءٍ أمام الغير، فيعددون أخطاءهم ويشكون مساوئهم.
5- لكل مَن صبرت على ابتلاءِ أصحابها وزوجها فتصبر زوجها، وليس على لسانها سوى كلمة "خيرًا إن شاء الله".
6- لكل مَن كانت معينًا لزوجها على طاعة الله بذكاء وصبر وابتكار.
7- لكل مَن صبرت على تربية أبنائها على ما يُرضي الله.
8- لكل مَن صبرت على خَلقٍ سيئ في زوجها.
وإذا الحبيب جاءَ بذنبٍ واحد جاءت محاسنه بألف شفيع