د. أحمد العسال |
بقلم: أبو رقية أحمد سليمان الدبشة*
إن من أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعًا، وأشده على الأمة لوعة وأثرًا؛ فقد العلماء الربانيين، والأئمة المصلحين؛ لأن للعلماء مكانة عظمى، ومنزلة كبرى، فهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، والأمناء على ميراث النبوة، هم للناس شموسٌ ساطعة، وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها، وأنوار هداها، بهم حُفظ الدين وبه حُفِظُوا، وبهم رُفعت منارات الملة وبها رُفِعُوا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: من الآية 11).
يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضلَّ إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، وما عزّت الأمم، وبلغت سامق القمم، وشيَّدت صروح الحضارات، وقامت الأمجاد، وتحققت الانتصارات بعد الله إلا بهم، فهم أهل خشية الله ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: من الآية 28)، وهم مادة حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وقوت الضمائر، وزاد القرائح، ومهما صيغت النعوت والمدائح في فضائلهم فلن توفيهم حقهم.
وقد ابتُليت الأمة خلال الأيام القليلة الماضية بمصيبة فقد عالم جليل هو فضيلة العلامة الزاهد المجاهد الفقيه المربي فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد العسال- رحمه الله- له في تاريخ الدعوة صفحات منيرة مضيئة، هذه الدعوة التي لم تتوقف يومًا عن العمل بالإسلام وللإسلام، فأخرجت جيلاً فريدًا من طراز عجيب من البشر حتى قال عنهم الشهيد سيد قطب- رحمه الله- (الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين؛ فوجدتهم في واقع الحياة قائمين.. يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم, مؤمنين في قرارة نفوسهم: أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.. فتية كانوا في الخيال أمنيةً وحلمًا, فإذا هم في الحياة حقيقة وواقع, بل هم حقيقة أعظم من الخيال, وواقع أكبر من كل الآمال، فتية انبثقوا من ضمير الغيب كما تنبثق الحياة من ضمير العدم, وكما ينبثق النور من خلال الظلمات، فتية يجاهدون باسم الله، في سبيل الله، على بركة الله).
دارت كلمات الإمام الشهيد سيد قطب رحمه الله بذهني وخاطري وأنا أتلقى خبر وفاة شيخنا الجليل, ومعرفتي بشيخنا الجليل سبقت زمان لقائي به فكان الواقع أروع من الخيال، وقليلون هم من يتطابق واقعهم مع دعوتهم؛ نعم لقد كان شيخنا الجليل خيالاً رائعًا في القلب والفكر والوجدان الشيخ المجاهد الزاهد المربي الواعي الفقيه الأصولي المتفتح عرفته من كلماته وخطبه ودروسه ومواعظه التي تهز القلب هزًّا تسمعه فتلمح همَّ الإسلام في كلماته وفي هيئته وتعابير وجهه؛ فكأنه يُجسِّد الإسلام حيًّا بين عينيك، فلما التقيته كان الواقع أروع من كل خيال، وأعظم من كل صورة، كان الأمر كما صوَّره أستاذنا الكبير ومرشدنا الكريم فضيلة الأستاذ محمد مهدي عاكف- حفظه الله وأمد في عمره- (لقد نجح الإمام الشهيد حسن البنا بما وهبه الله من عمق إيمان وصدق يقين ونفاذ بصيرة في أمرين:
الأول: هو الفهم الصحيح والدقيق لهذا الدين وتجلية معالمه بشمولها وكمالها وتوضيح أركانه، وبيان رسالته الخالدة وأهدافه العليا.. نجح في أن يبيِّن أن الإسلام منهج حياة متكامل، يصلح لكل زمان ومكان، بعيدًا عن الإفراط والتفريط، فكشف سمو هذا الدين العظيم، وأبان عن رقيه وعظمته، وأعاده إلى ما كان عليه الأمر عند المسلمين الأوائل.
الدكتور أحمد العسال والأستاذ مصطفي مشهور والمستشار المأمون الهضيبي |
والثاني: أنه لم يكتفِ بالتنظير والكتابة، بل اتجه إلى تربية الرجال الذين يحملون هذا الفهم العميق والإيمان الدقيق والحماس المتدفق، والجهد المتواصل.. الرجال الذين يحبون هذا الدين، أمانةً في أعناقهم، وعمقًا في وجدانهم، وسلوكًا في حياتهم، واعتزازًا في عقولهم وضمائرهم مهما واجهوا من عنت أو لاقوا من صعاب أو تحملوا من أذًى، لا يرجون إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يطلبون إلا رضاء الله وعزة دينهم وأمتهم.. أحبوا دينهم فاجتهدوا لنصرته، وأحبوا أمتهم فبذلوا أرواحهم وأوقاتهم وجهدهم وعرقهم لرفعتها وعزتها، وسقط منهم شهداء، وسُجن منهم من سُجن، وشُرد منهم من شُرّد، لكن ذلك كله لم يُثنهم عن التزام الحق والدفاع عنه وصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ (الأحزاب)، كان اللقاء بشيخنا الجليل منذ ما يقرب من العامين فانعقدت بيننا رابطة ود متصلة، فكان من كريم خلق شيخنا الجليل ولطف عطفه أنه كان دائم السؤال عني، نسأل الله أن يجعل هذا في موازين حسناته، اتصلت الصلة بيننا فأعاد إلى ذهني ذكريات حبيبة عن جيل فريد ربَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرَّج منه نماذج لعمالقة سطَّروا تاريخ المجد، كما صوَّر هذا أستاذنا الكبير ومرشدنا الكريم فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور- رحمه الله- (منذ أن قام الإمام القدوة وخاتم الرسل والأنبياء داعيًا إليه، ومبشرًا به، وجامعًا الناس حوله، في صحراء كان سكانها في جهالة؛ يعبدون الأصنام.. فتحولوا بعد أن رسخ الإسلام في قلوبهم وعقولهم إلى مؤمنين سبقوا غيرهم إلى الإيمان بالدعوة، كما جاءت تخاطب وتتفاعل مع الفطرة.. وتخاطب وتتفاعل مع العقول والقلوب.. فتملأ القلوب بطمأنينة العقيدة.. تسكن وتحتل أعماقها.. وتملأ العقول بمفاهيم ومعالم الخير، والعدل، والحرية، والمساواة.. وتنطبع على الجوارح عملاً يؤكد الفهم، ويؤكد العلاقة الوثيقة بين الفهم والعمل.. وقبل ذلك كله فهو دليل الإيمان الصادق الراسخ، يحرِّك ويوجه، ويبعث على العمل، والإنجاز والتضحية والبذل.
والله سبحانه الذي أنزل الإسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ليدعو إليه ويبشر به ويربي الناس على العمل به وله.. جامعًا المؤمنين في دوحته وواحته، يتعالون فوق ما يخدش ويشين، متحلين بكل ما يجمل ويزين.. يعيشون جنة القيم والمثل، وقد أقاموها على أرض الواقع.. تتأكد فيها معالم وروابط الأخوة.. والحب في الله، والمساواة، والتعاطف، والود، والتراحم.. الله سبحانه الذي أنعم على عباده بهذا الإسلام، كان في مقدوره وهو الخالق القادر أن يبعث لهذا الدين ملائكة تحرسه وتذود عنه.. ولكن لحكمة عنده.. هو الحكيم الخبير.. نهضت قافلة الدعاة منذ أن نزل الإسلام إلى اليوم.. تحمل الرسالة وتؤدي الأمانة.. جابوا الشرق والغرب.. ووصلوا وطافوا أمصار الشمال والجنوب متجردين من متاع وزخرف الدنيا.. ومصالح ومطامع ومطامح النفس البشرية، في استقامة للوجهة.. وخلوص للنية، وطمع فيما عند الله وحده.. وهو القائل جل شأنه: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: من الآية 96).
وها نحن نرى جيل الدعوة المعاصر يسير على خطى سلفه الراشد، كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، شاهدين في كل أرجاء العالم أن الله متم نوره ولو كره المشركون).
أعاد الدكتور العسال إلى الأذهان هذه الذكريات وتلك الصورة لرجال حملوا هم الإسلام، فعاشوا له وبه ومن أجله كنت عندما أراه أتذكر العلماء الأفاضل الأجلاء علماء السلف الصالح الذين أخبر عنهم الحق جلَّ وعلا ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب)، وكان آخر لقاء لي بفضيلته قبل وفاته بأسبوعين وهو في فراش المرض، زرته في رفقة أستاذنا الكريم الأستاذ الدكتور جمال علي يونس بالإسكندرية، فرأيناه الصابر المحتسب كان يقول لنا: (إن ما يؤلمني فيما أنا فيه أنني بعيد عن إخواني وعن عملي لدعوة الله)، ثم كان آخر اتصال هاتفي معه قبل وفاته بيوم واحد قبيل صلاة الجمعة، فرزقني الله منه بدعاء كريم من قلب خاشع، أسأل اللهَ أن يرزقني خير ما دعا لي به.
رحل عالمنا الجليل عن دنيانا في صمت ليلقى وجه ربه صابرًا محتسبًا، لم يبدل ولم يغير، منذ أن تفتَّحت عيناه على منهج الإسلام الوسطي الشامل، فسار على منهج الإمام حسن البنا، وعاش حياته في ظلال هذه الدعوة المباركة، رحل ولم يلقَ من الرعاية والاهتمام ما يليق بعلمه ومكانته، رغم أن فضائله لا تُجارى، ومناقبه لا تُبارى، ثلمته لا تسد، والمصيبة بفقده لا تُحدّ، والفجيعة بموته نازلة لا تُنسى، وفاجعة لا تُمحى، والخطب بفقده جلل، والخسارة فادحة، ومهما كانت الألفاظ مكلومة، والجمل مهمومة، والأحرف ولهى، والعبارات ثكلى، فلن تستطيع التعبير، ولا دقة التصوير، فليست الرزية على الأمة بفقد مال، ولكن الرزية أن يفقد عالم يموت بموته جمعٌ غفير، وبشر كثير، فموت العالم ليس موت شخص واحد، ولكنه بنيان قوم يتهدم، وحضارة أمة تتهاوى.
فموت العالم مصيبة وهو نذير شؤم لهذه الأمة، وتعظم الفجيعة إذا كان من يفقد متميز المنهج، فذ العبقرية، متوازن النظرة، متماسك الشخصية، معتدل الرؤى قوي في الحق لا يخشى في الله لومة لائم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب).
أمة في إمام، أئمة في رجل، نسيج بمفرده، وطراز مستقل وحده، من علماء الفقه والشريعة المتحلين بالاعتدال والوسطية، والحريصين على الأمة، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، على الرغم مما تعرَّضت له الأمة من الخلل العقدي والفكري والأخلاقي، فما كان الرجل إلا من هذا الطراز المتميز، اجتهاد في حسن التوجيه، حتى لكأنه مدارس جامعة، يصدر عنه الرأي في النوازل، والمنهج في المستجدات، والمسلك الأسلم في المتغيرات، تمسكًا بالتأصيل الصحيح، والمنهجية المنضبطة بضوابط الشرع، فلا غرو إذًا أن يكون موته هزة عنيفة الوطء، شديدة الأثر، محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، في الوقت الذي تُعاني فيه أمتنا الإسلامية ظروفًا عصيبة في عالم اليوم الذي يموج بالتحديات، وتكتنفه سرعة المتغيرات، وتعصف بعوامل استقراره المستجدات، وتضج فيه أنواع من الفوضى الفكرية الوافدة، والاتجاهات العقدية المتنوعة، وفوضى الفتاوى المجترئة.
المستشار عبد الله العقيل مع د أحمد العسال و مصطفى الأعظمي ومحيي عبد الحليم وعبد العزيز الزهيري |
وأختم حديثي بنقل ترجمة المستشار عبد الله العقيل- حفظه الله وأمد في عمره- لشيخنا الجليل يقول فضيلة المستشار:
(تلقينا ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة الأخ الأستاذ الدكتور أحمد محمد العسال، زميل الدراسة ورفيق الدعوة، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس الجامعة الإسلامية بباكستان سابقًا، وأحد أعلام جماعة الإخوان المسلمين عن عمر ناهز 82 عامًا.
ولد الأخ الدكتور أحمد العسال في 13 من مايو عام 1928م بقرية الفرستق مركز بسيون بمحافظة الغربية، وحفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وقبل أن يتم الثانية عشرة من عمره نال جائزة الملك فاروق لحفظ القرآن الكريم.
التحق بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وتخرَّج فيها عام 1958م، وعمل بمكتب الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق عام 1960م، ولم تطل مدة عمله معه؛ حيث سافر عام 1961م إلى قطر في بعثة لتدريس مادة اللغة العربية لطلاب الثانوية.
حصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة "كامبريدج" بلندن عام 1968م، ودرّس بمختلف الجامعات منها الجامعة الإسلامية بباكستان التي التحق بها عام 1986م، وعمل بها رئيسًا ومستشارًا متخصصًا في الثقافة الإسلامية.
والأخ الكريم أحمد العسال من أوائل من عرفتهم بمصر سنة 1949م؛ حيث كنا زملاء في الدراسة والسكن والعمل الدعوي المشترك، من خلال قسم الاتصال بالمجال الإسلامي ولجنة البعوث الإسلامية، وكنا ننشط في محيط الطلبة المبعوثين للدراسة بمصر، وبخاصة من البلاد العربية والإسلامية، وعلى الأخص الإفريقية، فضلاً عن النشاط الدعوي في محيط الطلبة بالكليات الأزهرية والجامعات المصرية.
والدكتور العسال كان من مجموعة الطلبة الذين تتلمذوا على يد الأستاذ البهي الخولي مع إخوانه: يوسف القرضاوي، ومحمد الدمرداش، ومحمد الصفطاوي، وعبد العظيم الديب، وغيرهم.
الدكتورأحمد العسال والأستاذ محمد الصفطاوي |
وكنت أرافقه في السفر إلى الأقاليم داخل مصر؛ لنشر الدعوة، والمشاركة في الدروس والمحاضرات والمخيمات والأسر والكتائب، وقد أجرى الله على يديه الخير الكثير في محيط طلبة البعوث الإسلامية بشكل خاص، فضلاً عن الطلبة المصريين.
والأخ العسال فيه صفاء ونقاء وروحانية ودماثة في الخلق ووفاء، ولقد ظفرت بالنصيب الأكبر من هذا الوفاء والإخلاص والمودة، بحكم القرب؛ حيث كنّا معًا لا تفرِّقنا إلا أيام سفري إلى خارج مصر لزيارة الأهل.
وكنا نجد خشوعًا ولذة ما بعدها لذة في الصلاة خلفه؛ حيث إنه صاحب صوت نديّ بتلاوة القرآن الكريم، يبكي ويُبْكِي، وكذلك الشأن في أحاديثه الدعوية التي تخرج من قلب عامر بحب الإسلام والعمل لنشر تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ونفس مطمئنة إلى قضاء الله وقدره.
ولقد تعلَّق به إخواننا- طلبة البعوث الإسلامية- من الدول العربية والإسلامية، فالكثير منهم ممن وفقني الله إلى لقائهم أثناء رحلاتي الدعوية بعد التخرج في بلدانهم كانوا يُكثرون السؤال عن الأخ الدكتور أحمد العسال، بل إن الكثير منهم يقول: عرفناك من خلال الأخ العسال، فأنتما لا تفترقان عن بعضكما.
ثم شاء الله تعالى أن أزور مصر بعد التخرج بفترة طويلة، وذلك سنة 1961م، حيث التقيت به بعد خروجه من السجن مع إخوانه: يوسف القرضاوي، ومحمد الدمرداش، وغيرهما، وكان لقاءً أخويًّا أسريًّا عائليًّا ذكّرنا بعهد الدراسة الجامعية بمصر، وأعاد إلى نفوسنا الطمأنينة بعد هذا الغياب الطويل، والحمد لله رب العالمين.
وبعدها توالت اللقاءات في قطر، التي عمل فيها لفترة طويلة، ثم في السعودية؛ حيث كان أستاذًا في جامعاتها، وكذا باكستان، فضلاً عن لقاءاتنا المتكررة بمصر والكويت والأردن وأوروبا وغيرها.
والأخ العسال كان من ذوي الهمة العالية والنشاط الذي لا يفتر، رغم الأمراض والمتاعب التي كان يعاني منها، فقد كان يلقي الدروس والمحاضرات والخطب، ويشارك في الندوات والمؤتمرات، ويدير الأسر الإخوانية والكتائب الدعوية، ويُشرف ويشارك في الرحلات والمعسكرات التي تنتظم شباب العالم الإسلامي الوافدين إلى مصر للدراسة، وكان عنده من الفطنة والفراسة بحيث يُركز على بعض العناصر التي يؤمل أن تكون فاعلة ومؤثرة في بلادها، ويكسبها الدُّرْبَة والمِرَان على الأمور القيادية، وبالفعل فإن هذه المجموعات من شباب البعوث الإسلامية عادوا إلى بلادهم قَادَةً للعمل الإسلامي هناك، وقاموا بنشاط ملحوظ، وكسبوا عناصر جديدة كانت نواة العمل في تلك الأقطار، وبرز منهم قادة أَكْفَاء ودعاة أتقياء وعلماء وفقهاء، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
لقد كان الأخ الحبيب الدكتور أحمد محمد العسال نموذج التربية الإسلامية التي درجت في صفوف جماعة الإخوان المسلمين منذ نعومة أظفاره.
وحين كتب الله له الهجرة من مصر إلى خارجها كانت آثاره واضحة في قطر والسعودية وباكستان وغيرها من بلدان العالم العربي والإسلامي التي زارها؛ فكان طلبته من تلك البلدان يذكرونه بالخير ويشيدون بأسلوبه الحكيم في الدعوة إلى الله، وكسب الأنصار، والتصدي لدعاة الباطل، وتفنيد أباطيلهم، والوقوف بحزم وصلابة أمام الطغاة والمفسدين الذين يريدون صرف الأمة المسلمة عن منهج الإسلام الحق المُسْتَقَى من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة.
المستشار عبد الله العقيل بمنزله بمكة المكرمة مع د. أحمد العسال |
إن الحديث عن الأخ الكريم أحمد العسال- رحمه الله- لا تستوعبه الصفحات، ولا تفي بحقه الكلمات، فهو من ثمار هذه الدعوة المباركة المعاصرة التي أرسى قواعدها الإمام الشهيد حسن البنا وتلامذته من بعده الذين ثبتهم الله في المحن، وخرجوا أصلب عودًا وأقوى شكيمةً وأصفى قلوبًا؛ فكانوا النماذج المشرقة لهذا الجيل المعاصر الذي يراهم، فيرى شبابًا تربى على مائدة القرآن الكريم، واتبع سنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وتَرَسَّمَ خُطى سيرته العطرة، واقتفى أثر الصحابة والتابعين ومن سار على منهجهم من السلف الصالح.
فكان الإخوان المسلمون هم الصورة المشرقة للالتزام بالإسلام قولاً وعملاً وسلوكًا وصبرًا على البلاء في سبيل الله وعدم المساومة أو التفريط في حقِّ الدعوة إلى الله أو التخلي عن منهج الإسلام، مهما كانت العقبات الموضوعة في طريق الدعاة.
ومن هنا؛ نجد هذا التيار الإسلامي الذي ينتظم شباب الإسلام في كلِّ أنحاء العالم يمتد ويتسع، بحيث لم تبق منطقة من مناطق العالم العربي والإسلامي إلا وعادت إليه الحيوية لنشر الدعوة.
رحم الله فقيدنا رحمة واسعة، وجعل الجنة مثواه، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.) اهـ.
د. أحمد العسال |
لكن من حسن العزاء لنا في فقده: أن دين الله محفوظ، وشريعته باقية، وخيره يفيض ولا يغيض، فأعلام الديانة مرفوعة بحمد الله: "ولا تزال طائفة من أمتي- أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". أخرجه مسلم وغيره، وأخرج أبو داود بسند جيد، والحاكم وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها".. "وَعَلَمُ هذا الدين يحمله من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
ونحسب فضيلة شيخنا الجليل قد خلف خلفه من تلامذته من نأمل ونرجو أن يكون عوضنا فيه، وإن الأمة لم تصب بمصيبة هي أعظم من مصابها بفقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة بفقد من بعده تهون، مهما كان شجاءً.
كما أن من حسن العزاء أن هؤلاء العلماء- رحمهم الله- باقون بذكرهم.. أحياء بعلمهم، يلهج الناس بالثناء عليهم والدعاء لهم، ويجتهدون في اقتفاء آثارهم، وترسم خطاهم علمًا وعملاً، ودعوة ومنهاجًا، تشبهًا بالكرام إن لم يكونوا مثلهم، فذلك أمارة الفلاح. أولئك أبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع، تبقى سيرتهم نبراسًا يضيء الطريق أمامنا، فنهتف من قلوبنا كرر على حديثهم يا حادي فذكرهم يجلو الفؤاد الصاد نسأل الله العلي القدير أن يتغمد شيخنا الجليل ووالدنا الحبيب بواسع رحمته، وأن يجزيه عنا وعن تلامذته وعلمه وفقهه وجهاده خير ما جازى به عباده الصالحين، وأن يأجرنا في مصابنا فيه خيرًا، وأن يخلفنا خيرًا منه.
فيا أستاذنا الكريم نم قرير العين مستريح البال فإنا على العهد نسأل الله لك القبول والسكينة والطمأنينة جزاء ما قدَّمت في خدمة كتاب الله، نسأل الله أن يجزيك عنا وعن تلامذتك وأحبابك خير ما جازى به عباده الصالحين، اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره وأغفر اللهم لنا وله، اللهم أغفر لآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا وعلمائنا ولأهلينا ولمن له حق علينا ولمن لنا حق عليه، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم أجرنا في مصابنا خيرًا واخلفنا خيرًا منه، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا شيخنا ووالدنا الكريم لمحزونون، نسأل الله أن يربط على قلوبنا وقلوب أهله وأحبابه وإخوانه إنه ولي ذلك والقادر عليه.