تشبثت بيده في عنف، وبدت أنفاسها لاهثة، ثم ما لبثت أن تراخت قبضتها، وانكسرت نظراتها وقالت بصوت تخنقه العبرات :
- أكنت سترحل .. بلا وداع ؟!
فوضع حقيبة أغراضه فوق أرض الميناء ، وراح يحدق في موج البحر المتدفق المتلاطم تارة، وتارة أخرى يرسل نظراته لتعانق الأفق البعيد المتخاصر وأطراف الغيوم الرمادية في محاولة لتحاشي النظر في عينيها الدامعتين .
لكن صمته الحائر كان يموج بحبه الجارف لها ، ويفصح عما يُخالج نفسه من عاطفة جارفة جياشة توشي بمكنون صدره وما يطويه القلب من أسرار .
سافر بعيداً وقريباً بنظراته حتى استقرت أخيراً في عينيها المُسهمة نحوه، فأحس بأن بريق دموعها يعلو فوق انعكاس الضوء على جانبي الباخرة ، وأن العالم قد خلا من أهله ، وأن الأرض تميد به في عنف .
وحين أعادة عليه نفس السؤال ، شعر بأنه كفأر مُطارد لا يقوى على تحريك لسانه للرد بكلمة واحدة، بيد أنه تحامل على نفسه ، وراح يتطلع إلى السماء المتشحة بالغيوم ، ثم أشار إليها هامساً بنبرة تختلط فيها نشوة الرحيل بالحب العميق :
- انظري إلى تلك الطيور .. كلٌ إلى موطنه يعود .
فصرخت في وجهه بصوت ذليل يائس :
- أنا وطنك .. أنا زوجتك .. أنا حبيبتك .. أنا ......
لكنه كان قد استدار موليا وجهه شطر راحلته الرابضة كأنها في انتظاره منذ عقود ، يلاحقه صوتها الصارخ ، بينما يدفع به قلبه المُفعم بالحنين إلى وطنه .
دلف إلى الباخرة لا يرى شيئاً من فرط إحساسة بهذا الذنب الذي اقترفه في حقها ، وبقى غارقاً في خواطره ، وأفكاره ؛ حتى تذكر تلك الصدفة التي جمعته بها في أحلك الظروف ، وفي بلد المهجر، وكيف أنها شغفت بحبه فأغدقت عليه عواطفها وأحاسيسها بسخاء قبل أن يربطهما الزواج فتقف بجانبه ، وتحول يأسه وفقره المدقع إلى نجاح وشهرة رجل أعمال مرموق .
لكن الرحيل ... دق أبوابه ، وراحت رغبته في العودة إلى وطنه ترسم له المبررات وتخبره أنه ليس هناك مفر، فانصاع لها كأنه مدفوعاً في حياته كلها بقوة لا شعورية .
انتفض فوق مقعده حين دوىَّ نفير الباخرة ، فأخرجه مما كان غارقاً فيه من خواطر وذكريات وانفعالات حادة تداخلت في عشوائية ، فتنبه غير واعِ إلى قسوة ما هو مُقدم عليه ... ضرب رأسه براحته وراح يقاوم طوفاناً جارفاً من الدموع الحارة متمتماً بسؤال حائر :
- كيف أبحث عن وطن .. ووطني في عينيها ؟!!
واندفع مهرولاً نحوها تاركاً كل شيء خلفه ، حالماً أن يسابق اللحظات فيحتويها بين ذراعيه ، ويبوح لها بما خفى من حب دفين ؛ حالت شرقيته قبل ذلك دون البوح به .
وحين وصل؛ لم يجدها ، وإنما وجد نفراً من الحراس قد تجمعوا مكانها ، وراحوا يحدقون في الماء ،
وعندما سألهم ما الخطب ؟ .. أخبره أحدهم أن هناك غريق .
- أكنت سترحل .. بلا وداع ؟!
فوضع حقيبة أغراضه فوق أرض الميناء ، وراح يحدق في موج البحر المتدفق المتلاطم تارة، وتارة أخرى يرسل نظراته لتعانق الأفق البعيد المتخاصر وأطراف الغيوم الرمادية في محاولة لتحاشي النظر في عينيها الدامعتين .
لكن صمته الحائر كان يموج بحبه الجارف لها ، ويفصح عما يُخالج نفسه من عاطفة جارفة جياشة توشي بمكنون صدره وما يطويه القلب من أسرار .
سافر بعيداً وقريباً بنظراته حتى استقرت أخيراً في عينيها المُسهمة نحوه، فأحس بأن بريق دموعها يعلو فوق انعكاس الضوء على جانبي الباخرة ، وأن العالم قد خلا من أهله ، وأن الأرض تميد به في عنف .
وحين أعادة عليه نفس السؤال ، شعر بأنه كفأر مُطارد لا يقوى على تحريك لسانه للرد بكلمة واحدة، بيد أنه تحامل على نفسه ، وراح يتطلع إلى السماء المتشحة بالغيوم ، ثم أشار إليها هامساً بنبرة تختلط فيها نشوة الرحيل بالحب العميق :
- انظري إلى تلك الطيور .. كلٌ إلى موطنه يعود .
فصرخت في وجهه بصوت ذليل يائس :
- أنا وطنك .. أنا زوجتك .. أنا حبيبتك .. أنا ......
لكنه كان قد استدار موليا وجهه شطر راحلته الرابضة كأنها في انتظاره منذ عقود ، يلاحقه صوتها الصارخ ، بينما يدفع به قلبه المُفعم بالحنين إلى وطنه .
دلف إلى الباخرة لا يرى شيئاً من فرط إحساسة بهذا الذنب الذي اقترفه في حقها ، وبقى غارقاً في خواطره ، وأفكاره ؛ حتى تذكر تلك الصدفة التي جمعته بها في أحلك الظروف ، وفي بلد المهجر، وكيف أنها شغفت بحبه فأغدقت عليه عواطفها وأحاسيسها بسخاء قبل أن يربطهما الزواج فتقف بجانبه ، وتحول يأسه وفقره المدقع إلى نجاح وشهرة رجل أعمال مرموق .
لكن الرحيل ... دق أبوابه ، وراحت رغبته في العودة إلى وطنه ترسم له المبررات وتخبره أنه ليس هناك مفر، فانصاع لها كأنه مدفوعاً في حياته كلها بقوة لا شعورية .
انتفض فوق مقعده حين دوىَّ نفير الباخرة ، فأخرجه مما كان غارقاً فيه من خواطر وذكريات وانفعالات حادة تداخلت في عشوائية ، فتنبه غير واعِ إلى قسوة ما هو مُقدم عليه ... ضرب رأسه براحته وراح يقاوم طوفاناً جارفاً من الدموع الحارة متمتماً بسؤال حائر :
- كيف أبحث عن وطن .. ووطني في عينيها ؟!!
واندفع مهرولاً نحوها تاركاً كل شيء خلفه ، حالماً أن يسابق اللحظات فيحتويها بين ذراعيه ، ويبوح لها بما خفى من حب دفين ؛ حالت شرقيته قبل ذلك دون البوح به .
وحين وصل؛ لم يجدها ، وإنما وجد نفراً من الحراس قد تجمعوا مكانها ، وراحوا يحدقون في الماء ،
وعندما سألهم ما الخطب ؟ .. أخبره أحدهم أن هناك غريق .