أسباب وقوع الخلاف:
لسائل أن يسأل: لماذا يختلف المسلمون والعلماء منهم، وهم جميعاً يصدرون من الكتاب والسنة؟
وفي الإجابة نقول: للخلاف بين المسلمين أسباب أهمها:
- اختلاف العلماء في حجية بعض المصادر الفقهية أو اختلافهم في رتبة الاحتجاج بها كما في خلاف الفقهاء في حجية القراءات الشاذة والحديث المرسل والاستحسان وشرع من قبلنا وإجماع أهل المدينة.
- اختلافهم في فهم النصوص. كما في قوله: {أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [المائدة:6]. ففسرها الجمهور بأنها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.
- الاختلاف في فهم علة الحكم كما في الخلاف في مشروعية القيام للجنازة هل هو للمؤمن أم للكافر؟ وهل يقام تعظيماً للملائكة أم لهول الموت؟ أم أنه خاص بالكافر حتى لا تعلو جنازة الكافر رأس المسلم؟
- الجهل بالدليل لعدم بلوغه، مثاله: خفي على عمر حكم دخول أرض الطاعون، بل وعلى كثير من الصحابة، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
- عدم الوثوق بصحة الدليل الذي عند الآخرين، فقد يضعف العالم المخالف الحديث في حين يصححه الآخرون، لاختلاف العلماء في تعديل أحد الرواة، أو لعلة يراها في السند أو المتن تجعل الرواية شاذة أو لغير ذلك من أسباب رد الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.
ومن ذلك قصة عمر مع فاطمة بنت قيس حين رد حديثها بقوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) [مسلم ح1480].
- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)) [أحمد ح25828، أبو داودح2193 وابن ماجه ح2046]. فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم بالإكراه، وآخرون بالغضب، وآخرون بغياب العقل بثورة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطلاق.
ومثله قد وقع من الصحابة عام الخندق كما في الصحيحين عندما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) [البخاري ح946، ومسلم ح1770]. فتمسك بعضهم بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك الآخرون بمفهوم النص والمراد منه، وهو الإسراع فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: (ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم).
خامساً: آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف:
ثمة آداب ينبغي على علماء المسلمين وعامتهم مراعاتها والقيام بحق المخالف فيها، ومنها:
1- إحسان الظن بالعلماء وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان له – وقد يكون هو المخطئ -، وعليه فلا يعتقد هلكتهم في خلافهم له ،بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر)) [البخاري ح7352، ومسلم ح1716].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: ((قد فعلت)) [مسلم ح126] [الفتاوى 19286].
ومنه قول علي رضي الله عنه لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: (إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} [الحجر:47]. [رواه الحاكم ح5613، والبيهقي في السنن ح16491].
قال يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" [جامع بيان العلم 2/80].
ويقول الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: "كان يرى القدر نسأل الله العفو .. ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه .. إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام 7/271].
وفي المتأولين في خلاف شاذ (من أحل نكاح المتعة أو ربا الفضل) يقول ابن تيمية في تحقق النصوص الشرعية التي جاءت بالوعيد لمن صنع ذلك، "فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أخرى.." [رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص66].
أن لا يؤدي الخلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة" [الفتاوى: 4/172–173].
ويقول "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" [الاستقامة 1/31].
ويقول يونس الصدفي: “ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”.
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" [سير أعلام النبلاء 10/16-17].
وقال محمد بن أحمد الفنجار:" كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب" [سير أعلام النبلاء10/630].
وصدق الشاعر حين قال:
في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن الصدور
أن لا يُنكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه أو المحاورة معه للخروج من الخلاف والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ.
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. [الفقيه والمتفقه 2/69].
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" [مجموع الفتاوى20/207].
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) [البيهقي في السنن ح5225].
العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية:
الخلاف شر، وينبغي على المسلمين العمل على رفعه، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، فقولنا بأن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسالة. ولأجل هذا دونت مئات الكتب التي تتحدث في مواطن الاختلاف وموارد النزاع.
وفي الحوار ينبغي على المسلم أن يتواضع لإخوانه، وأن يلتزم طلب الحق في حواره معهم كما علمنا الله بقوله في مجادلتنا للكافرين {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]. وينبغي أن يكون جداله معهم بالتي هي أحسن فقد قال الله في جدال أهل الكتاب {وَلاَ تُجَـادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال في حق غيرهم {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال القرطبي: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه.
ثم قال: فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي" [الجامع لأحكام القرآن 2/16]. وكلام القرطبي لا يمنع ولا يرفع ما ذكره العلماء في هجر المبتدع أو الفاسق، فذلك أيضاً من وسائل الدعوة التي قد تردع عن الفسق والبدعة.
لسائل أن يسأل: لماذا يختلف المسلمون والعلماء منهم، وهم جميعاً يصدرون من الكتاب والسنة؟
وفي الإجابة نقول: للخلاف بين المسلمين أسباب أهمها:
- اختلاف العلماء في حجية بعض المصادر الفقهية أو اختلافهم في رتبة الاحتجاج بها كما في خلاف الفقهاء في حجية القراءات الشاذة والحديث المرسل والاستحسان وشرع من قبلنا وإجماع أهل المدينة.
- اختلافهم في فهم النصوص. كما في قوله: {أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [المائدة:6]. ففسرها الجمهور بأنها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.
- الاختلاف في فهم علة الحكم كما في الخلاف في مشروعية القيام للجنازة هل هو للمؤمن أم للكافر؟ وهل يقام تعظيماً للملائكة أم لهول الموت؟ أم أنه خاص بالكافر حتى لا تعلو جنازة الكافر رأس المسلم؟
- الجهل بالدليل لعدم بلوغه، مثاله: خفي على عمر حكم دخول أرض الطاعون، بل وعلى كثير من الصحابة، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
- عدم الوثوق بصحة الدليل الذي عند الآخرين، فقد يضعف العالم المخالف الحديث في حين يصححه الآخرون، لاختلاف العلماء في تعديل أحد الرواة، أو لعلة يراها في السند أو المتن تجعل الرواية شاذة أو لغير ذلك من أسباب رد الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.
ومن ذلك قصة عمر مع فاطمة بنت قيس حين رد حديثها بقوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) [مسلم ح1480].
- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)) [أحمد ح25828، أبو داودح2193 وابن ماجه ح2046]. فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم بالإكراه، وآخرون بالغضب، وآخرون بغياب العقل بثورة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطلاق.
ومثله قد وقع من الصحابة عام الخندق كما في الصحيحين عندما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) [البخاري ح946، ومسلم ح1770]. فتمسك بعضهم بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك الآخرون بمفهوم النص والمراد منه، وهو الإسراع فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: (ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم).
خامساً: آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف:
ثمة آداب ينبغي على علماء المسلمين وعامتهم مراعاتها والقيام بحق المخالف فيها، ومنها:
1- إحسان الظن بالعلماء وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان له – وقد يكون هو المخطئ -، وعليه فلا يعتقد هلكتهم في خلافهم له ،بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر)) [البخاري ح7352، ومسلم ح1716].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: ((قد فعلت)) [مسلم ح126] [الفتاوى 19286].
ومنه قول علي رضي الله عنه لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: (إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} [الحجر:47]. [رواه الحاكم ح5613، والبيهقي في السنن ح16491].
قال يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" [جامع بيان العلم 2/80].
ويقول الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: "كان يرى القدر نسأل الله العفو .. ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه .. إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام 7/271].
وفي المتأولين في خلاف شاذ (من أحل نكاح المتعة أو ربا الفضل) يقول ابن تيمية في تحقق النصوص الشرعية التي جاءت بالوعيد لمن صنع ذلك، "فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أخرى.." [رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص66].
أن لا يؤدي الخلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة" [الفتاوى: 4/172–173].
ويقول "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" [الاستقامة 1/31].
ويقول يونس الصدفي: “ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”.
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" [سير أعلام النبلاء 10/16-17].
وقال محمد بن أحمد الفنجار:" كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب" [سير أعلام النبلاء10/630].
وصدق الشاعر حين قال:
في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن الصدور
أن لا يُنكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه أو المحاورة معه للخروج من الخلاف والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ.
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. [الفقيه والمتفقه 2/69].
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" [مجموع الفتاوى20/207].
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) [البيهقي في السنن ح5225].
العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية:
الخلاف شر، وينبغي على المسلمين العمل على رفعه، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، فقولنا بأن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسالة. ولأجل هذا دونت مئات الكتب التي تتحدث في مواطن الاختلاف وموارد النزاع.
وفي الحوار ينبغي على المسلم أن يتواضع لإخوانه، وأن يلتزم طلب الحق في حواره معهم كما علمنا الله بقوله في مجادلتنا للكافرين {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]. وينبغي أن يكون جداله معهم بالتي هي أحسن فقد قال الله في جدال أهل الكتاب {وَلاَ تُجَـادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال في حق غيرهم {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال القرطبي: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه.
ثم قال: فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي" [الجامع لأحكام القرآن 2/16]. وكلام القرطبي لا يمنع ولا يرفع ما ذكره العلماء في هجر المبتدع أو الفاسق، فذلك أيضاً من وسائل الدعوة التي قد تردع عن الفسق والبدعة.