لقد انتصر دم أحمد ياسين على جلاديه
استخدمت الولايات المتحدة الأميركية يوم الخميس 25 مارس 2004 حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدين العملية الإجرامية التي قام بها الكيان الصهيوني فجر يوم الاثنين 22 مارس 2004 في غزة باغتيال الشيخ أحمد إسماعيل ياسين مؤسس حركة حماس وقائدها الروحي وتسعة آخرين معه وهم خارجون من المسجد بعد أدائه صلاة الصبح.
وكانت الدولة الأبرز التي رفضت إدانة العملية وذهبت إلى تأييدها حيث قال الناطق باسمها: «"إسرئيل" دولة ذات سيادة ونحن نعترف بأن عليها أن تتخذ خطوات للدفاع عن نفسها.» بينما وصف حليفها التقليدي البريطاني العمل بأنه: «عمل غير قانوني وغير مبرر وغير عادل».
كان نص مشروع القرار الذي قدمته الجزائر باسم المجموعة العربية، متوازناً إلى حد كبير مراعاة لما تطلبه الولايات المتحدة عادة، ومنسجماً إلى حد كبير أيضاً مع موقف الاتحاد الأوربي الذي أدان تلك الجريمة البشعة، وقد أيدت المشروع إحدى عشرة دولة عضو في مجلس الأمن الدولي الذي وصفه (دان جيلرمان) سفير الكيان الصهيوني لديه «بالنفاق»؟! وامتنعت ثلاث دول عن التصويت هي: بريطانيا وألمانيا ورومانيا
وليس المستغرب أو المستهجن هنا أن تستخدم الولايات المتحدة الأميركية حق النقض لحماية الكيان الإرهابي الصهيوني من الإدانة، فذاك هو نهجها المستمر وموقفها الثابت عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين والعرب من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى، وقد استخدمت الفيتو حوالي 39 مرة في هذا المجال
لقد اغتال الكيان الصهيوني الشيخ أحمد ياسين، وصنف عمله الإجرامي ذاك تحت لائحة محاربة الإرهاب، فالشيخ ياسين بنظر الناطق الرسمي الأميركي: «كان زعيماً لتنظيم إرهابي» وبنظر الصهاينة والمتصهينين ومن تؤثر الحركة الصهيونية عليهم هو « بن لادن فلسطين»، ويقود حركة مصنفة أوروبياً تحت الضغط الأميركي الصهيوني: «حركة إرهابية»؟! ولا عجب فكل من يقاوم الاحتلال الأميركي الصهيوني هو إرهابي ومارق وخارج على القانون ومستباح دمه ويستحق الموت وفق تلك الشريعة المقيتة؟
اغتال الكيان الصهيوني الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة «حماس» التي انطلقت مع بداية الانتفاضة الأولى في التاسع من ديسمبر سنة 1987، وخميني فلسطين كما سماه الصهاينة في محاكمتهم الأولى له عام 1983 بعد أن أسس «حركة المجاهدين» التي دعت إلى «مقاومة الاحتلال حتى زواله عن كامل التراب الفلسطيني».. اغتالته بجبن وخسة لا نظير لهما، وسبّح بوش وإدارته بحمد شارون الذي أنجز بحملته الإرهابية تلك ما لم ينجزه بوش بحملته الأوسع منذ سنتين ونيّف
وبوش من قبل هذه العملية البشعة وغيرها من جرائم شارون يرى فيه «رجل سلام»، وأنموذجاً يحتذى به، ونبياً من أنبياء (بني إسرائيل).. وهو يؤمن بالأساطير الكثيرة حول (بني إسرائيل) ويتبع أنبياءهم ويعمل من أجلهم وفق اعتقاده الذي يأخذه إلى دوائر شتى من الهوس والفعل الذي استحق عليه قول بعض الزعماء الاستراليين الذين غرر بهم إنه أفشل رئيس عرفته الولايات المتحدة الأميركية!
لم يقم شارون وحده باتخاذ قرار بهذا الحجم من الغباء والدموية والاستفزاز.. فليس هو الذي انفرد بالقرار وأشرف على تنفيذه وهنأ الذين شاركوه في التنفيذ على نجاحهم في اغتيال شيخ مسن مقعد على كرسي أمام مسجد في غزة.. بل أيده 61% ممن استطلعت آراؤهم حول هذا الاغتيال البشع من الصهاينة في فلسطين المحتلة هم شركاء له
ومعنى هذا أن هذا الخليط العجيب من المحتلين هو من الإرهابيين العتاة الذين يقرون جرائم من هذا النوع ويعملون على تنفيذها في إطار مسلسل إبادة مستمر ضد شعب بكامله.. وهذه نقطة التقاء إضافية ليس بين شارون وبوش الذي يؤيده ويُعجَب به فقط بل بين الصهاينة العنصريين ومن يسميهم الأميركيون الآباء المؤسسين للدولة الذين أبادوا الهنود الحمر وحضارتهم قبل ثلاثمئة سنة تقريباً؟
العنصرية، والاعتقاد النابع من تلمودية مقيتة وتوراتية مشبعة بفوقية «شعب الله المختار»؟!، والغطرسة اللامتناهية، والاستخدام البشع للقوة، والنظر إلى الآخر على أنه الشرير..إلخ كل ذلك أسس لهذا النوع من السياسة التي تقوم على العدوان وتشويه صورة الآخر وأخذ القانون باليد والتدخل الفج.. بل الوقح في شؤون الآخرين وإطلاق الأحكام السلبية عليهم واتهامهم بأشنع التهم مثلما فعل الرئيس السابق للكنائس الإنجيلية في العالم كيري يوم الخميس 25 مارس الجاري حين اتهم الثقافة السياسية للإسلام والمسلمين بأنها شريرة؟! من دون أن يفكر مجرد تفكير في فهم الآخر واحترام عقيدة سماوية يدين بها أكثر من سدس العالم، ومن دون أن يتبصر في حقائق ثابتة هي أن دولته مركز الخطر الداهم الذي يقلق الشعوب والحضارات والثقافات والديانات؟
إن شارون وبوش وتشيني ورامسفيلد وولفويتز وريتشارد بيرل وإليوت إبراهام وأليوت اغيل من جهة ونظراءهم من حاييم وايزمن وبيغن حتى شامير وغولدشتاين وكاهانا وشارون من طينة عنصرية واحدة وأتباع عقيدة استعلائية واحدة تعلمهم الإجرام واتهام الآخرين به. وعلينا أن ندرك ذلك جيداً ونتعامل معه بواقعية واقتدار على أساس ثوابته ونظرته الاستعلائية الاستعمارية التلمودية وليس على أساس تسامحنا وأوهامنا وما يلقنه لبعضنا من أكاذيب
لقد أقام الكيان الصهيوني ورموزه العسكرية والمدنية حساباتهم عند القيام بتلك الجريمة البشعة على أساس أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين سيلحق بحماس ضربة قاصمة ويكسر ظهرها تماماً ويبددها في غزة وخارجها، فيخرج هو من غزة منتصراً وقد دمرها تنظيمياً وروحياً، ويؤسس لحرب أهلية فلسطينية ـ فلسطينية يؤجج نارها «التسابق» على من يحكم غزة ومن يقود حماس، ويقضي على نظرية أن تصبح غزة بعد هزيمته فيها واضطراره للانسحاب منها: «أرض حماس: حماس لاند» تنطلق منها عمليات تحرير ضده.. وأنه يمكن أن يجتث باغتيال قائد حماس الروحي روح الحركة ذاته..إلخ ولكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً.. فحماس تجاوزت المحنة رغم ثقلها الكبير، وانتخبت خليفة للشهيد أحمد ياسين هو المجاهد عبد العزيز الرنتيسي من دون ارتباك أو خلاف أو تطاحن..
على الرغم من أن رجال حماس يتطاحنون على الشهادة في سبيل الله والقضية، والزعيم فيها يحتل موقعاً متقدماً على طريق تلك الشهادة، والجناح العسكري لحماس لم يتزلزل بل يعد برد يزلزل المعتدين.
لقد تجاوزت حماس المحنة الامتحان، ونادت كما نادت الفصائل الفلسطينية المقاومة والسلطة بوحدة الصف الفلسطيني، والتمسك بالمقاومة بوصفها خيار الشعب الفلسطيني ووسيلته للدفاع عن نفسه والتصدي للاحتلال والوصول إلى التحرير والحرية والدولة المستقلة..
وأصبح دم الشهيد أحمد ياسين رايات في معظم العواصم والمدن العربية والإسلامية يسير الناس تحتها يؤيدون المقاومة وينادون بالثأر، وتمكن الشيخ أحمد ياسين باستشهاده من تحقيق إجماع عربي وإسلامي حول حماس والمقاومة وتحرير كامل التراب الفلسطيني أكبر من ذلك الذي حققه في حياته. وسيبقى الشهيد يعطي المقاومة دفعاً إلى الأمام في طريق الجهاد والاستشهاد والتحرير
لقد هز ذلك الحدث دولاً عربية وأعاد طرح سؤال القضية عليها من منطلق المسؤولية القومية من جهة وأبعاد الاستهداف الصهيوني المستمر ضد الشعب والمقدسات والحقوق من جهة أخرى.
واستطاع شارون بأفعاله الإجرامية أن يكشف الغطاء عن أعين بعض الرؤساء العرب ليروا أخيراً «أن الدولة العبرية «منظمة إرهابية»، وهذا يفيد إذا ما أصبح يقيناً أن الكيان الصهيوني ليس دولة تستحق توقيع اتفاقيات دولية محترمة معها، وأن الشعب العربي لن يغفر لحكامه السكوت على سفك الدم الفلسطيني وإبقائه مباحاً مستباحاً، وأن ذلك الشعب في الأقطار كلها يتعلق بقضية فلسطين بوصفها قضية عربية وإسلامية وعادلة وإنسانية قبل كل شيء.