النشأة والتكوين
وُلِدَ في منتصف شهر رجب عام 1336هـ/ 1917م في مدينة حلب الشهباء بسورية، وكان والده وجده يحترفان التجارة عن طريق صنع المنسوجات الغزلية، وقد نشأ في حِجْر والده الذي كان محبًّا للعلماء حريصًا على حضور مجالسهم وسماع دروسهم ومواعظهم، وعندما بلغ الشيخ عبد الفتاح الثامنة من عمره أدخله والده المدرسة العربية الإسلامية الخاصة ثم المدرسة الخسروية، وهي مدرسة ثانوية شرعية، وبعد التخرج ذهب إلى مصر للدراسة بالأزهر، فالتحق بكلية الشريعة حتى حصل على شهادة العالمية عام 1948م، وتخصَّص في أصول التدريس بكلية اللغة العربية بالأزهر، وتخرَّج فيها عام 1950م، عاد بعدها إلى سوريا.
تلقَّى العلم على أيدي مشايخ كثيرين في مصر وبلاد الشام والهند وغيرهم، مثل الشيخ محمد أبو زهرة ومحمد الخضر حسين، وأحمد شاكر، والشيخ شلتوت، وحسين راغب الطباخ (1293- 1370هـ /1877- 1951م) الذي كان عالمًا في الحديث والتاريخ، والشيخ أحمد بن محمد الزرقا (1285-1357هـ/ 1869- 1937)م والد الشيخ مصطفى الزرقا رحمها الله، والشيخ عيسى البيانوني العالم الفقيه الشافعي، وكان مسجده يُعرف بمسجد أبي ذر، ويقع في الجبيلة بالقرب من بيت والد الشيخ عبد الفتاح.
تزوَّج الشيخ من السيدة فاطمة دلال الهاشمي شقيقة صديقه الدكتور علي الهاشمي، فكانت له نِعْم الزوجة الصالحة؛ نهضت معه بعبء البيت وتربية الأولاد ليتفرَّغ للدعوة والعلم الشرعي، ووقفت بجانبه في الشدائد والأمراض، فكانت خير زوجة وأنيس.
وللشيخ ثلاثة أبناء وثماني بنات، وهم: محمد زاهد، والدكتور أيمن المتخصص بأمراض القلب، الشيخ سلمان.
الشيخ عبد الفتاح والإمام البنا
التقى الشيخ عبد الفتاح بالإمام البنا وقت أن كان يدرِّس في الأزهر الشريف، وتعرَّف عليه وأعجب به وصاحبه في لقاءاته وانضوى تحت لوائه، وقد أطلق على الإمام البنا اسم (الأستاذ الناصح الراشد المرشد)، وقد سار مع إخوانه الدعاة في بلاد الشام؛ يرفعون راية الإسلام ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الأجنبي والتصدي لموجة التغريب العلماني الوافدة من الغرب والفكر الماركسي والهجمة الصليبية الصهيونية.
بعد أن عاد الشيخ إلى بلده سوريا، حمل على عاتقه عبء الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي، وتعلَّق الإخوان بدورهم بالشيخ رحمه الله تعالى ووثقوا به منذ عودته إلى سوريا من مصر؛ فكان الشيخ إلى جانب عمله في التدريس، نشيطًا في الدعوة إلى الله، فنال ثقة العامة والخاصة، واحترام أقرانه؛ لورعه وتقواه وعلمه ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشدًا وسندًا وموئلاً، بل كان بشخصيته المتميزة وسلوكه القويم مدرسة دعوية حية متحركة؛ تتلمذ على يديه ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين؛ كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر فضيلته رحمه الله تعالى وأفسح له في جناته، وكانت دروس مادة التربية الدينية التي يدرِّسها من أحب الدروس إلى الطلبة وموضع إقبالهم واهتمامهم، بعد أن كانوا يعرضون عن أمثالها.
انتخب الشيخ سنة 1382هـ/ 1961م نائبًا عن مدينة حلب بأكثرية كبيرة، فنال بذلك ثقة مواطنيه، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات، ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب، وفي مجلس النواب السوري قام الشيخ عبد الفتاح مع إخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سوريا.
وفي عام 1965م بعد عامين على حل المجلس النيابي غادر الشيخ سوريا ليعمل مدرسًا في كلية الشريعة بالرياض، ولما عاد إلى بلده في صيف 1386هـ/ 1966م أُدخل السجن مع ثلة من رجال العلم والفكر والسياسة، ومكث في سجن (تدمر) الصحراوي مدة أحد عشر شهرًا، وبعد كارثة الخامس من يونيو سنة 1967م أفرجت الحكومة آنذاك عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ رحمه من بينهم.
كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان المسلمين مبنيةً على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين، لا جريًا وراء المناصب والمسمَّيات؛ فقد كان التفرغ للعلم والتحقيق الرغبة الدائمة التي رافقته طوال حياته، ومع رغبة الشيخ الملحة في الانصراف بكليته إلى الجانبين العلمي والدعوي، فقد اضطر أكثر من مرة إلى أن يستجيب لرغبة إخوانه، فيتحمل معهم بعض المسئوليات التنظيمية، فكان أن تولى- على غير رغبة منه أو سعي- منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا مرتين، ثم تخلَّى عنه في أقرب فرصة مناسبة، متفرغًا للعلم والتأليف.
جهوده العلمية
يُعَدُّ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من العلماء الثقات الذين يفخر بهم العالم الإسلامي في هذا القرن، وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وتبحَّر في علمَي الفقه والحديث؛ حيث انكب منذ بداية حياته العلمية على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما.
ويمتاز تحقيق الشيخ عبد الفتاح بأنه يُقَدِّم مع الكتاب المحقَّق كتابًا آخر مليئًا بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة، التي توضح الغامض، وتسدد وتصوِّب وتُرَجِّح وتُقّرب العلم إلى طالبه، وتحببه إليه.
وللشيخ- رحمه الله تعالى- ولع شديد بكتب العلم؛ فكان يصرف وقته وجهده وماله في سبيل اقتنائها وخدمتها؛ فتجمعت لديه مكتبة من أعظم المكاتب؛ فيها النسخ النادرة من الكتب، وذهب جلُّها في الأحداث الأليمة التي طالت سوريا في أعوام 1978- 1982م، وأعادت الحكومة السورية ما تبقَّى منها للشيخ عند عودته إلى سوريا في عام 1995م.
وكان منهج الشيخ في التحقيق والتأليف منهج المتأنِّي الحريص على خدمة الكتاب من حيث الشكل والمضمون؛ فلم يكن يهدف إلى ربح مادي أو شهرة معنوية؛ ولذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة، حتى إذا اطمأنَّ إلى أنه قد قارب الاكتمال والحد المرضي من الجودة، أرسل به إلى المطبعة، وعكف شخصيًّا على مراجعة تجاربه المرة تلو المرة، وكانت زوجة الشيخ في كل هذه المراحل إلى جانبه عونًا وسندًا ومعاونًا لا يفتر، وبخاصة بعد أن تأثَّر بصره؛ فما توقف إنتاجه العلمي حتى آخر أيام حياته، فجزاها الله أفضل الجزاء.
وتُوِّجت حياة الشيخ العلمية عندما قام مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن بتكريم الشيخ، فاختاره لنيل أول جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي في حفل كبير في لندن في صيف عام 1415هـ/ 1995م؛ تقديرًا لجهوده في التعريف بالإسلام ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف.
انتدب الشيخ أستاذًا زائرًا لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان ولجامعة صنعاء في اليمن، ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية العلمية التي تُعقَد على مستوى العالم الإسلامي، وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات؛ حيث درس في الأردن وباكستان وتركيا والجزائر والعراق وقطر، وعمل فترةً في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم انتقل للعمل متعاقدًا مع جامعة الملك سعود في الرياض، كذلك اختير الشيخ لتمثيل سوريا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بعد شغور مقعدها بوفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني رحمه الله.
وقبل وفاته بسنوات تفرَّغ من العمل وعكف على العلم والتأليف حتى وافته المنية رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.[size=25]
].