هل يمكنك
أن تتصوّر نشوء عاطفة بينك كمسلم وبين غير المسلم _ في هذه البلاد _ تكون أساساً
للدعوة؟
هل يمكنك
أن تدعو إنساناً وأنت تحقد عليه؟ وأنت كاره له؟ بل تخطّط لحربه؟ هل يمكن أن تدعوه
في هذه الحالة بالحكمة والموعظة الحسنة؟
إذا كنت تريد أن تدعو
إنساناً، وأنت ترفض أن تسلّم عليه ابتداء، التزاماً بحديث الرسول صلى الله عليه
وسلّم وهو وضع للحديث في غير موضعه: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى
بالسلام"[1].
فهذا الحديث الخاص الذي قاله النبي الكريم في ظرف خاص، عندما كان اليهود في
المدينة يتآمرون ويحقدون على المسلمين، وكان المسلمون إذا بدؤوهم بالسلام لا
يردّون السلام عليهم، وإنّما يردّون بمزيد من الحقد والتآمر: (السام عليكم) .. في
هذا الجو، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تبدؤوهم بالسلام". فأصبح هذا
الحديث في كتبنا أساس العلاقة بين المسلم وغير المسلم في جميع الظروف، ونسينا
العشرات من الآيات الكريمة والمئات من الأحاديث الصحيحة التي تأمر بالسلام، وبردّ
التحية بمثلها أو بأحسن منها، وغير ذلك.
أقول: كيف يمكن
للمسلم أن يكون داعية لإنسان يتحرّج أن يبدأه بالسلام، أو يتكلّم معه بكلمة طيّبة
حتى يظن غير المسلم أن ليس في قلب المسلم أية عاطفة نحو إنسان غير مسلم.
والسؤال مرة أخرى: هل
يمكن أن تقوم علاقة حب بين المسلم وغير المسلم؟
أولاً : مراحل العلاقة بين المسلم وغير
المسلم:
ولكي أجيب على هذا
السؤال، سأركّز على تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم في مراحل ثلاث، وردت
جميعها في كتاب الله عزّ وجلّ وهي:
المرحلة
الأولى: التعارف:
يقول المولى عزّ
وجلّ: {يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
إذاً لا يمكن أن أرى
إنساناً غير مسلم، وتكون أول بادرة منّي هي أن أدير له ظهري وأهرب منه، ليس لسبب
سوى أنه غير مسلم، فلا أكلّمه، بينما لا توجد أية مشكلة بيني وبينه.
إذا كنت أيها الأخ
المسلم داعية، فهذه أرض الله خصبة لدعوتك، والله عزّ وجلّ سخّرها لك كي تقوم بواجب
الدعوة إلى الله، وتحقّق بها نجاحاً وفلاحاً، إرضاءً لله ولرسوله.
فأقبل على غير
المسلم، وتعرّف عليه وعلى مشاكله إن لزم الأمر، فلعلّ هذا التعرّف يقرّب قلبه منك،
ولعلّه يرتاح إليك، فتكون فرصة سانحة لدعوته إلى الله عزّ وجلّ.
فالتعارف بين المسلم
وغير المسلم مرحلة أساسية لا بدّ منها.
المرحلة
الثانية: التعايش:
هل يجوز للمسلم أن
يعيش مع غير المسلمين؟
الجواب: نعم ..
فهذه مسألة أساسية،
تشهد لها الكثير من النصوص والآيات والأحاديث الشريفة والواقع. إذ ليس من المعقول
أن لا يعيش المسلم إلاّ في جوّ إسلامي. وليس ذلك مطلوباً في شريعة الله إلاّ حين
يخاف المسلم على نفسه أو على دينه. ولم يفعل ذلك المسلمون بل فعلوا عكسه، وكانوا
يسافرون إلى البلاد غير الإسلامية ويتعايشون مع أهلها بأخلاق الإسلام، وكان ذلك
سبباً في دخول كثير من هذه الشعوب في الإسلام. وقد حدّد الله سبحانه وتعالى أساس
هذا التعايش بقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم
من دياركم، أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المقسطين}.
إذا لم يبدأك غير
المسلم بحرب، ولا أخرجك من ديارك، ولا ظاهر على إخراجك، فهذا يجوز أن تعيش معه،
وعند ذلك يجب عليك أن تلتزم بالبرّ والقسط.
البرّ أعلى درجات حسن
الخلق:
انظروا إلى هذا
المعنى القرآني العظيم، البر _ وهو أعلى درجات حسن الخلق _ ومنه برّ الإنسان لأمّه
وأبيه، فهو أعلى درجات حسن الخلق، والمطلوب منّا كمسلمين أن نتعامل بهذا البرّ مع
غير المسلمين، وأن نتعامل معهم أيضاً بالقسط وهو العدل، فلا يجوز لك أن تظلم غير
المسلم، بل يجب عليك أن تقف بجانبه إذا كان الحق معه، ولو كان الخصم أخاك المسلم.
هذه قيم أخلاقية
عظيمة ومسائل شرعية أساسية نتعايش بها مع غير المسلمين. والله تعالى لم يفرضها
علينا كي ندير ظهورنا لغير المسلمين، ولا نتعامل معهم، إنما فرضها علينا كي تكون
هي الأساس لهذا التعايش الذي يقتضيه الواقع.
لقد خلق الله _ عزّ
وجلّ _ البشر هكذا: متنوّعين، متعدّدين، ولو شاء سبحانه لجعلهم أمّة واحدة، {..
ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم ..}
ثم طلب منهم أن يتعارفوا، وأن يتعايشوا بهذا البرّ والقسط.
المرحلة
الثالثة: التعاون:
تتعارف أولاً مع غير
المسلمين ..
ثمّ تتعايش بمحبة
وانفتاح معهم ..
ثم .. أليس عندك
مسائل شرعية محددة؟ ..
هل يصعب أن تجد بعض
هذه المسائل الشرعية تحقّق مصلحتك، وفي نفس الوقت تحقّق مصالح غير المسلمين؟
إذا وقع الانسجام في
مسألة ما، فمن الممكن أن يقع التعاون، ما المانع في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه
وسلم _ كما نعرف جميعاً _ تحدّث عن "حلف الفضول" وكان ذلك في الجاهلية،
حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على مساعدة الضعيف، وإغاثة
الملهوف، ومساعدة المحتاج، إلى ما هنالك من مكارم الأخلاق، وحضره رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال في الإسلام بعد ذلك: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان
حلفاً ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت".
يجوز لنا إذاً أن
نلبّي دعوة لغير المسلمين، إذا كانت على أساس يرضي الله عزّ وجلّ، فإذا كانت لدينا
مسائل نعتبرها شرعية، وغير المسلمين يتبنّونها لأسباب أخرى، فإننا يمكن أن نتعاون
معهم على تحقيقها طالما أنها تعتبر مشروعة عندنا. وما أكثر أمثال هذه المسائل.
إذاً فالمراحل التي
تحدّد ملامح العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي: التعارف .. ثمّ التعايش على أسس
شرعية .. ثمّ التعاون على الأمور المتفق عليها المشروعة في ديننا.
ثانياً: الروابط الاجتماعية بين البشر:
أنتقل بعد ذلك إلى
ناحية أخرى في تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم.
خلق الله سبحانه
وتعالى البشر وأقام بينهم روابط متعددة، يتعاونون بها على شؤون الحياة، وحولها
يتلاقون.
من هذه الروابط:
أولاً : رابطة الإنسانية :
وهي التي تربط بينك
وبين كل إنسان على وجه الأرض، شئت هذا أم أبيت، فأنت من ذريّة آدم وهو من ذريّة
آدم، وأنت إنسان وهو إنسان كذلك. والإنسان مكلّف من عند الله بتكليف واحد، سواء
امتثل لهذا التكليف أم لا. ولذلـك تجد الكثير من آيات القرآن الكريم توجّه الخطـاب
للناس جميعاً: {.. يا أيها الناس ..}. وقد ورد لفظ (الناس) أكثر من مائتي مرة في
كتاب الله، فضلاً عن غيرها من الألفاظ التي تعبّر عن وحدة الجنس البشري، وتشير
بالتالي إلى وجود رابطة بين هؤلاء الناس، وهي التي نسمّيها الرابطة الإنسانية.
لأنها موجودة عند أي إنسان تجاه جميع الناس. هذه الرابطة بالنسبة لنا كمسلمين
ترتّب علينا واجبات وحقوقاً شرعية تجدها مفصّلة في كتب الفقه والأخلاق والدعوة،
ولا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.
ثانياً : رابطة القومية :
وهي أقوى من الرابطة
الأولى، فالإنسان يلتقي مع قومه _ وهم مجموعة من الناس _ على أمور أكثر من مجرّد
الرابطة الإنسانية. إنه يعيش عادة مع قومه، ويتكلّم بلسانهم، وله معهم مصالح
مشتركة، وبينه وبينهم في الغالب قواسم مشتركة كثيرة. ولا شكّ أنّ هذه الرابطة
موجودة ولها تأثيرها في واقع الفرد ودنيا الناس. ولذلك فقد ورد ذكر لفظ (القوم)
ومشتقّاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مرة.
ثالثاً : رابطة العائلة :
وهي تمتدّ على ثلاثة
دوائر:
الأولى: وتشمل الوالدين والأولاد والزوجة ومن
يسكن معهم من الأقارب في نفس الدار.
الثانية: تشمل سائر الأقرباء من العصبات
والنساء وذوي الأرحام.
الثالثة: تشمل سائر الأقرباء الذين ينتسبون إلى
جد واحد مهما كان بعيداً.
هذه الرابطة تترتّب
عليها آثار أكبر في حياة الإنسان، ولذلك خصّتها الشريعة بقدر كبير من الأحكام،
سواء ما يتعلّق بالأبوين والزوجة والأولاد، أو بالمحارم، أو بالمواريث، أو
بالعاقلة (وهم الأقرباء الذين يلتزمون بمساعدة أحدهم في دفع الدية إذا ارتكب جريمة
قتل خطأ)، أو غير ذلك.
رابعاً : رابطة المصلحة :
وهي التي تربط مجموعة
من الناس بمصالح مشتركة يريد كل واحد منهم الحفاظ عليها ودعمها، كالنقابات التي
تربط بين العاملين في مجال واحد، وقد لا يكون بينهم رابط آخر.
فهذا التعايش الدائم
والمصالح المتبادلة تولّد رابطة بينك وبين هؤلاء القوم.
خامساً : رابطة الإقامة :
فالذي يقيم في بلد ما
يشعر تجاه هذا البلد برابطة تشدّه إلى مكان إقامته الجديدة.
فالمسلم إذا أقام
ببلد غير إسلامي، والعربي حين يقيم في بلد غير عربي، والمسيحي حين يقيم في بلد
إسلامي _ غير بلده _ كل هؤلاء يشعرون برابطة خاصة تجاه بلد الإقامة الجديد، قد
يكون فيها شيء من الحب والاحترام، وقد تكون نوعاً من الحقد والكراهية بحسب
المعاملة التي يلقاها في هذا البلد الجديد. وهذه الروابط هي مشاعر فطرية بشرية
طبيعية.
سادساً : الرابطة
الإسلامية :
أما الرابطة
الإسلامية فهي التي تربط المسلم بأخيه المسلم، وهي تشمل كل من يقول: لا إله إلاّ
الله محمد رسول الله. إنها الرابطة العقائدية التي تهيمن على ما سواها من الروابط
جميعاً وتغلبها عند التنازع، لكنها مع ذلك لا تلغي أية رابطة منها على الإطلاق.
والإشكالية الحاصلة هنا هي أنّ بعض المسلمين يظنّ أنّ هذه الرابطة تلغي جميع
الروابط الأخرى ولا يعترف إلاّ بها، مع أنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. فالله عزّ
وجلّ يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد
في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
يقول القرطبي في
تفسير هذه الآية: (وفي الآية دليل على وجوب حبّ الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين
الأمّة، وأنّ ذلك مقدّم على كلّ محبوب). ومعنى ذلك أنّ حبّ الله ورسوله لم يلغ
أنواع الحب الأخرى، ولكنه يقدّم عليها فقط.
لقد أشارت الآية
الكريمة إلى رابطة الأبوّة والبنوّة والأخوّة والزوجية والعشيرة (القومية)
والمصالح المتمثّلة بالأموال والتجارة ورابطة المساكن أي الإقامة، واستعملت كلمة
(أحبّ إليكم)، فالله تعالى لم ينكر علينا هذه الروابط وما ينشأ عنها من حب، ولكنه
أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبّنا لله ورسوله، فالمطلوب أن يكون الحب لله
أكبر من أيّ حب آخر. وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبّه لله والتزامه بأحكام
شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى. أمّا إذا لم يقع التعارض فأنت تعيش وفي
قلبك حب لهذه العناصر الدنيوية طالما أنها لا تتعارض مع حبّك لله أو حبّك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم. إذاً لا بدّ أن ينشأ عن هذه الروابط التي أشار إليها ربّ
العالمين حبّ، لأنّ الإنسان يعيش مع الإنسان الآخر إمّا بحبّ أو ببغض. والحبّ
درجات والبغض درجات. فالحبّ قد يكون في أدنى الدرجات أو أعلاها، والبغض كذلك، ولا
يمكن أن يرتبط أي إنسان بآخر إلاّ بأحد هذين الشعورين بشكل من الأشكال.
هنا أجد من الواجب أن
أنتقل لتوضيح مسألة أخرى في غاية الأهمية، وخاصة بالنسبة لمن يعيش مع غير المسلمين
فأقول:
ثالثاً: حبّ المسلم لغير المسلم:
هل يجوز لمسلم أن
يشعر بحب نحو غير المسلمين؟ اسمعوا لقول الله عزّ وجلّ: {ها أنتم أولاء تحبونهم
ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه، وإذا رأوكم عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل
موتوا بغيظكم}.
المقصود بهذه الآية اليهود على رأي أكثر المفسّرين، والمنافقون على رأي بعضهم.
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (.. فأنتم إذا كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب
كلها، وتعلمون أنّ الذي نهيتكم عنه أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بجحودهم ذلك
كله، من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه، أولى بعداوتكم
إيّاهم وبغضائهم وغشّهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم ..). (.. وفي هذه الآية إبانة من
الله عزّ وجلّ عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان
ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما
حدّثنا بشر عن … قتادة
قوله: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه}، فوالله
إن المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له _ أي يرقّ له _ ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على
ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه).
ويقول السيد محمد
رشيد رضا في تفسير هذه الآية: (فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها، واصفاً المسلمين
بهذا الوصف، الذي هو أثر من آثار الإسلام، وهو أنهم يحبّون أشدّ الناس عداوة لهم،
الذين لا يقصّرون في إفساد أمرهم وتمنّي عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة، وما خفي
منها أكبر مما ظهر .. أليس حبّ المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين، وإقرار
القرآن إيّاهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أنّ
هذا الدين دين حبّ ورحمة وتساهل وتسامح، لا يمكن أن يصوّب العقل نظره إلى أعلى منه
في ذلك). وبعد كلام طويل يقول السيد رضا: (ونتيجة هذا كله: إن الإنسان يكون في
التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح، وقربه من
الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك، والله يقول لخيار المؤمنين: {ها أنتم أولاء
تحبّونهم ولا يحبّونكم}، فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا
..).
وإيّاك أن تفهم من
ذلك أنّ حبّك للمسلم هو كحبّك لغير المسلم، هناك فارق كبير، فالمسلم إنما تحبّه
لإيمانه بالله ورسوله، ولالتزامه بالعقيدة الصافية الصحيحة، حتى وإن لم تلقه، ولم
تكن بينك وبينه مصلحة، لأنك إنما تحبه لأجل الله الذي ربط الإيمان به بينكما، حتى
لو وقع بينك وبينه خلاف، فليس ذلك بمزيل لمحبّته من قلبك أبداً.
كما أنّه لا يمكن أن
يكون في قلبك حبّ لغير المسلم بسبب كفره، فهذا أمر محال، لكن قد يكون في قلبك حبّ
له لاعتبارات أخـرى. قد يكون صادقاً فتحبّ فيه صدقه، وقد يكون وفياً فتحبّ فيه
وفاء العهد، وقد يكون معك أميناً في التجارة فتحبّ فيه هذه الأمانة، وأنت تحبّ له
الهداية في كلّ الأحوال. هذه المشاعر قد توجد بينك وبين غير المسلم، وهي تختلف عن
الحب في الله الذي لا يمكن أن يكون إلاّ لإنسان مسلم، والذي يكون مجرّداً من كل
الاعتبارات الأخرى، بينما حب الكافر حين يوجد لا بدّ أن يكون مرتبطاً بأسباب أخرى.
وقد ورد في أسرى بدر من المشركين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان
المطعم بن عدي حياً ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له".
وهو دليل على وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي لدوره في حمايته
عندما عاد من الطائف، ولدوره في تمزيق صحيفة المقاطعة، وكان مشركاً في الحالتين.
هذا الشعور من النبي عليه الصلاة والسلام نحو المطعم يحمل في طيّاته نوعاً من
الحبّ الفطري لقيم الشهامة والشجاعة، وليس أبداً من نوع الحب العقائدي.
حبّ المسلم لزوجته الكتابية:
ومما يؤيّد هذه
الفكرة أنّ الله عزّ وجلّ أباح للمسلمين الزواج بالكتابيات كما هو معروف. وقد خلق
الله تعالى نوعاً من الحبّ والمودة بين الزوجين تكفل استمرار الحياة الزوجية، رغم
كل الإشكالات. قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها
وجعل بينكم مودة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}.
فالرجل المسلم يحبّ
زوجته الكتابية، والله تعالى هو الذي خلق هذه المحبة في قلبه، فهل يجوز أن ينهاه
عنها؟ أعني هل يمكن أن يباح للمسلم الزواج من كتابية ثم يطلب منه أن لا يودّها
ويحبّها؟ هذا غير معقول، فلو كان لا يجوز له مودّتها، لنهاه عزّ وجلّ عن الزواج
منها.
إذاً يمكن أن تكون
هناك مودّة بين المسلم وغير المسلم، ولكن ليس لكفره وضلاله _ معاذ الله _ ولكن
لاعتبارات أخرى مشروعة، منها رابطة الزوجية، فإن الزوجة ولو كانت كتابية تشارك
زوجها في كثير من المشاعر، ويمكن أن يتفاهما فيها معاً.
كما يمكن أن تكون
هناك مشاعر فطرية وروابط اجتماعية بين المسلم وغير المسلم، إذا وجدت مثل هذه
الاعتبارات المشروعة كالعهد والجوار والتعامل وغيرها. إنه إذا لم يكن هناك نوع من
المحبّة أو نوع من الاحترام أو الخلق الطيّب بينك وبين غير المسلم، فلا يمكن أن
تنجح في دعوتك أبداً. قال تعالى: {أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة،
وجادلهم بالتي هي أحسن..}.
هذا أساس من أسس
الدعوة، وهو أن يكون هناك حوار بالتي هي أحسن، وأن تكون هناك حكمة، وموعظة حسنة.
هذه كلها لا تتوفّر إلاّ بوجود مشاعر بين الداعي والمدعو، قد تسميها حباً باعتبار،
وقد تسميها مودة باعتبار آخر. وليس هو بلا شكّ من الحب في الله، وليس من المودة
التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه الكريم.
المودة المنهي عنها:
قال تعالى: {لا تجد
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
فالمودة التي نهى
الله عنها في هذه الآية هي لمن كفر وحادّ الله ورسوله، وليس فقط لمن كفر، بل هو من
زاد على كفره أنّه يحادّ الله ورسوله، ويحارب الإسلام والمسلمين، لكن لو افترضنا
أنّ هناك إنساناً كافراً غير محارب لله ورسوله، ولم يحادّ الله ورسـوله _ وقد
تتوفّر فيه بعض الصفات الطيّبة والقيم الراقية _ فلا بأس أن نقدّر فيه هذه الصفات
أو القيم أو الاعتبارات لأنها بقية من رصيد الفطرة عنده، وهي مقبولة من الناحية
الشرعية، بل إنّ الرسول صلىّ الله عليه وسلّم يجعل هذه القيم أساس رسالته حين
يقول: "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".
ذكر الشوكاني في
تفسيره
أن هذه الآية {لا تجد قوماً يؤمنون ..} نزلت في أبي عبيدة بن الجراح عندما قتل
والده في غزوة بدر، وقد أخرج ذلك ابن أبي حاتم والطبري والحاكم وأبو نعيم في
الحلية والبيهقي في سننه. وذكر القرطبي
مثل هذا القول عن ابن مسعود. كما ذكر أنّ هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة
لمّا كتب إلى أهل مكّة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم إليهم عام الفتح. وذكر من
سبب نزولها أو تفسيراً لها موقف أبي بكر عندما دعا ابنه عبد الله للمبارزة، وموقف
مصعب بن عمير عندما قتل أخاه عبيد بن عمير. وموقف عمر بن الخطاب عندما قتل خاله
العاص بن هشام، وموقف علي وحمزة عندما قتلا عقبة وشيبة والوليد. وكل هذه المواقف
تؤكّد أن المودّة المنهي عنها في هذه الآية هي لمن جمع مع الكفر المحاربة. يؤيد
ذلك ما سبق أن ذكرناه من جواز مودة المسلم لزوجته الكتابية وفق نص القرآن الكريم
لأنها لا يمكن أن تكون محاربة بسبب رباط الزوجية، فإذا حصلت الحرب منها فينبغي أن
تزول المودة لأنها تصبح غير مشروعة.
نستنتج من هذا أنّ
العاطفة يمكن ويجب أن تكون موجودة تجاه إنسان تريد أن تدعوه إلى الله عزّ وجلّ،
وهذه العاطفة هي جزء صغير من عاطفة الحب التي أرادها الله عزّ وجلّ خالصة له،
وأراد أن يكون الحبّ والبغض للناس الآخرين خالصاً أيضاً له سبحانه. هذا هو الأساس
الذي يعتبر أقوى من كل ما عداه، ويغلب كل ما عداه .. لكن يمكن أن يكون ضمن هذا
الحب الكبير جزء يبذل لغير المسلمين في حدود ما يرضي الله، إمّا عاطفة وإمّا
حواراً بالتي هي أحسن، أو موعظة، أو خدمة، أو تضحية، أو تعاوناً على أمر مشروع،
فهذه كلها جزئيات، لكن لا بدّ أن تكون موجودة لأنها تعبّر عن حقيقة الرسالة
الإسلامية التي جعلها الله {رحمة للعالمين} وتساعد على نجاح الدعوة إلى الله.
الإسلام جاء رحمة للناس جميعاً:
إذا أعلن الكافر
الحرب عليّ، فلا يمكن أن يكون في قلبي ذرة حبّ نحوه، لكننا نعيش – في بلاد الغرب - اليوم في وسط مسالم ولو كان مخالفاً لنا في
الدين، وعندنا رفاق وجيران من غير المسلمين، وقد يكون من بين هؤلاء من هو قريب
جداً منّا، وقد تشعر أيها الأخ المسلم بنوع من العلاقة بينك وبين هؤلاء، وقد تستحي
أو تتحرّج أن تسمّيها حباً أو مودة، إنه لا حرج في ذلك حسب الفهم الصحيح للآيات
التي مرّت بنا وفق أسباب نزولها، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فهذه عواطف لا علاقة لها بالإيمان، وإنما هي عواطف متصلة باعتبارات مشروعة بالنسبة
لنا نحن المسلمين، ومثل هذه الاعتبارات المشروعة، قد تنشأ عنها عواطف فطرية، وهذه
لا يمكن ولا يتصوّر أن تتعارض مع الحبّ في الله، فضلاً عن أن تتغلّب على ذلك الحب
الذي يعتبر أصلاً من أصول الإيمان. إن أوثق عرى الإيمان هو: الحب في الله والبغض
في الله. ومما يؤكّد مشروعية هذه العواطف أن الله عزّ وجلّ أرسل رسوله محمداً صلى
الله عليه وسلم رحمة للعالمين
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لن تؤمنوا حتى تراحموا. قالوا يا رسول
الله كلّنا رحيم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة
عامة". وقال أيضاً: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وهل الرحمة تجاه الناس جميعاً إلاً نوعاً من العاطفة؟!
الحب الفطري والحب العقائدي:
من كل ما تقدّم
يتبيّن لنا أنّ هناك نوعين من الحبّ. حبّ فطري وحبّ عقائدي.
w
الحب
الفطري: وهو أثر من آثار
الشهوات. قال تعالى: {زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة
الدنيا والله عنده حسن المآب}.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "حُبّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء،
وجعلت قرّة عيني في الصلاة".
يقول
الإمام الغزالي عن هذا النوع من الحب: (هو حبّ بالطبع وشهوة النفس، ويتصوّر ذلك
ممّن لا يؤمن بالله. إلاّ أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً، وإن لم يتصل به
غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذمّ). فالحب الذي نتحدّث عنه مع غير المسلمين
لا يكون إلاّ من هذا النوع الفطري. فقد تحبّ امرأة غير مسلمة لجمالها أو خلقها.
هذا أمر فطري، ويكون مذموماً إذا اتصل به أمر حرام كالخلوة أو الاختلاط المحرّم أو
الزنى، ويكون مباحاً إذا اتصل به غرض مباح كالزواج. وقد تحبّ إنساناً غير مسلم
لحسن خلقه، أو كمال عقله، أو لقرابة بينك وبينه، أو لمصلحة لك عنده، أو لألفة
بينكما أو غير ذلك. فإذا لم يتصل بهذا الحب أمر مذموم فهو مباح، وعلى المسلم أن
يستفيد من هذا الحب في دعوة هذا الإنسان إلى الله تعالى. كما ورد عن عبد الله بن
عبد الله بن أبيّ، الصحابي الصالح الذي كان أبوه منافقاً، وكان يحبّه لأنه والده،
ويحبّ له الهداية، والرسول يأمره بحسن معاملة أبيه رغم نفاقه، لكن هذا الحب الفطري
لم يدفعه للانتصار لأبيه ضدّ المسلمين، ولو حصل ذلك لكان حباً مذموماً، ولكنه
انتصر للإسلام ضدّ أبيه كما هو معلوم.
w
الحب
العقائدي: وهو حب الله
ورسوله، والحب في الله ولله. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان، وجزء من عقيدة المسلم.
وبه يتعلّق التكليف الشرعي. لأنّ واجب المسلم أن يحب أخاه المسلم ولو لم يكن
بينهما تناسب أو انسجام أو قرابة أو مصلحة، بل يحبّه لأنّه مسلم. ولذلك اعتبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حلاوة الإيمان "أن يحب المرء لا يحبّه إلاّ
لله".
وتحدّث عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه ومنهم: "رجلان تحابّا في الله،
اجتمعا عليه وتفرّقا عليه".
وقال: "لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا ..".
ومثل هذه الأحاديث كثير.
هل يعتبر غير المسلمين (إخوة):
وقد يتحرّج بعض
المسلمين من اعتبار غير المسلمين إخواناً لنا، وإذا استعمل البعض كلمة إخواننا
النصارى، ترى الكثير من الشباب المسلم يهيج ويثور قائلاً: كيف تسمّون النصارى
إخواناً لنا والله عزّ وجلّ يقول: {إنّما المؤمنون إخوة}.
إنهم يفهمون من هذه
الآية أنّ الأخوّة محصورة بين المؤمنين، ولا يمكن أن تشمل غيرهم، وهذا ليس صحيحاً،
للأدلّة التالية:
1. لقد وصف الله عزّ وجلّ الأنبياء بأنهم إخوة
لأقوامهم الكفّار. قال تعالى:
-
{وإلى
عادٍ أخاهم هوداً}.
-
{وإلى مدين أخاهم شعيباً}.
-
{وإلى
ثمود أخاهم صالحاً}.
وقال
تعالى:
-
{إذ
قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون؟}.
-
{إذ
قال لهم أخوهم هود ألا تتقون؟}.
-
{إذ
قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون؟}.
هؤلاء
الأنبياء: نوح وهود وصالح وشعيب، اعتبرهم الله إخواناً لأقوامهم، فهذا تصريح من
القرآن بوجود أخوّة قومية رغم اختلاف الدين.
2. وقد أبقى الله تعالى وصف الأخوّة حتّى مع
الإنسان الكافر المحارب، وذلك في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم
الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم ..}.
فالأخوّة الإنسانية موجودة، والأخوّة القومية موجودة، والأخوّة النسبية موجودة،
وقد يكون معها أخوّة الإسلام فتزداد قوّة ومتانة، وقد لا يكون معها أخوّة إسلامية،
فتبقى كل أنواع هذه الأخوّة إلى جانب بعضها، وعند التعارض يغلّب المسلم أخوّته
الإسلامية على كل ما عداها.
أمّا الآية الكريمة
{إنّما المؤمنون إخوة} فمعناها أنّ العلاقة بين المؤمنين لا يمكن أن تكون إلاّ
علاقة أخوّة في الله، ولكنها لا تحصر الأخوّة فقط بين المؤمنين. إذ الأخوّة قد
يكون لها سبب آخر بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد تكون أخوّة قومية أو أخوّة
بشرية أو قد تكون صداقة مبنية على المصالح المشروعة.
ومن جهة أخرى فقد
تكون العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين حرباً أو عداوة أو أحقاداً، أمّا بين
المسلمين فالعلاقة ينبغي أن تكون دائماً قائمة على الأخوّة في الله.
إذا نظرنا إلى هذه
الآية في ضوء الآيات الأخرى، فإننا نتوصّل إلى النتيجة التالية: أنّ كل هذه
الروابط البشرية روابط فطرية، غير أنّ أقوى رابطة تربطني ببشر هي رابطة الأخوّة في
الله، وهذه لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها أو الاستحياء منها.
لكن هذه الرابطة
القوية ليست وحيدة ولا تمنع أن يكون بيني وبين غير المسلمين أخوّة من نوع آخر،
أقدّر فيها القرابة النسبية أو القومية أو الإنسانية، فهذه لها قدرها وتلك لها
قدرها، والذي يغلّب واحدة على أخرى عند التعارض أمر الله تعالى وشريعته.
مع أرق وخالص تحياتي
أن تتصوّر نشوء عاطفة بينك كمسلم وبين غير المسلم _ في هذه البلاد _ تكون أساساً
للدعوة؟
هل يمكنك
أن تدعو إنساناً وأنت تحقد عليه؟ وأنت كاره له؟ بل تخطّط لحربه؟ هل يمكن أن تدعوه
في هذه الحالة بالحكمة والموعظة الحسنة؟
إذا كنت تريد أن تدعو
إنساناً، وأنت ترفض أن تسلّم عليه ابتداء، التزاماً بحديث الرسول صلى الله عليه
وسلّم وهو وضع للحديث في غير موضعه: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى
بالسلام"[1].
فهذا الحديث الخاص الذي قاله النبي الكريم في ظرف خاص، عندما كان اليهود في
المدينة يتآمرون ويحقدون على المسلمين، وكان المسلمون إذا بدؤوهم بالسلام لا
يردّون السلام عليهم، وإنّما يردّون بمزيد من الحقد والتآمر: (السام عليكم) .. في
هذا الجو، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تبدؤوهم بالسلام". فأصبح هذا
الحديث في كتبنا أساس العلاقة بين المسلم وغير المسلم في جميع الظروف، ونسينا
العشرات من الآيات الكريمة والمئات من الأحاديث الصحيحة التي تأمر بالسلام، وبردّ
التحية بمثلها أو بأحسن منها، وغير ذلك.
أقول: كيف يمكن
للمسلم أن يكون داعية لإنسان يتحرّج أن يبدأه بالسلام، أو يتكلّم معه بكلمة طيّبة
حتى يظن غير المسلم أن ليس في قلب المسلم أية عاطفة نحو إنسان غير مسلم.
والسؤال مرة أخرى: هل
يمكن أن تقوم علاقة حب بين المسلم وغير المسلم؟
أولاً : مراحل العلاقة بين المسلم وغير
المسلم:
ولكي أجيب على هذا
السؤال، سأركّز على تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم في مراحل ثلاث، وردت
جميعها في كتاب الله عزّ وجلّ وهي:
المرحلة
الأولى: التعارف:
يقول المولى عزّ
وجلّ: {يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
إذاً لا يمكن أن أرى
إنساناً غير مسلم، وتكون أول بادرة منّي هي أن أدير له ظهري وأهرب منه، ليس لسبب
سوى أنه غير مسلم، فلا أكلّمه، بينما لا توجد أية مشكلة بيني وبينه.
إذا كنت أيها الأخ
المسلم داعية، فهذه أرض الله خصبة لدعوتك، والله عزّ وجلّ سخّرها لك كي تقوم بواجب
الدعوة إلى الله، وتحقّق بها نجاحاً وفلاحاً، إرضاءً لله ولرسوله.
فأقبل على غير
المسلم، وتعرّف عليه وعلى مشاكله إن لزم الأمر، فلعلّ هذا التعرّف يقرّب قلبه منك،
ولعلّه يرتاح إليك، فتكون فرصة سانحة لدعوته إلى الله عزّ وجلّ.
فالتعارف بين المسلم
وغير المسلم مرحلة أساسية لا بدّ منها.
المرحلة
الثانية: التعايش:
هل يجوز للمسلم أن
يعيش مع غير المسلمين؟
الجواب: نعم ..
فهذه مسألة أساسية،
تشهد لها الكثير من النصوص والآيات والأحاديث الشريفة والواقع. إذ ليس من المعقول
أن لا يعيش المسلم إلاّ في جوّ إسلامي. وليس ذلك مطلوباً في شريعة الله إلاّ حين
يخاف المسلم على نفسه أو على دينه. ولم يفعل ذلك المسلمون بل فعلوا عكسه، وكانوا
يسافرون إلى البلاد غير الإسلامية ويتعايشون مع أهلها بأخلاق الإسلام، وكان ذلك
سبباً في دخول كثير من هذه الشعوب في الإسلام. وقد حدّد الله سبحانه وتعالى أساس
هذا التعايش بقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم
من دياركم، أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المقسطين}.
إذا لم يبدأك غير
المسلم بحرب، ولا أخرجك من ديارك، ولا ظاهر على إخراجك، فهذا يجوز أن تعيش معه،
وعند ذلك يجب عليك أن تلتزم بالبرّ والقسط.
البرّ أعلى درجات حسن
الخلق:
انظروا إلى هذا
المعنى القرآني العظيم، البر _ وهو أعلى درجات حسن الخلق _ ومنه برّ الإنسان لأمّه
وأبيه، فهو أعلى درجات حسن الخلق، والمطلوب منّا كمسلمين أن نتعامل بهذا البرّ مع
غير المسلمين، وأن نتعامل معهم أيضاً بالقسط وهو العدل، فلا يجوز لك أن تظلم غير
المسلم، بل يجب عليك أن تقف بجانبه إذا كان الحق معه، ولو كان الخصم أخاك المسلم.
هذه قيم أخلاقية
عظيمة ومسائل شرعية أساسية نتعايش بها مع غير المسلمين. والله تعالى لم يفرضها
علينا كي ندير ظهورنا لغير المسلمين، ولا نتعامل معهم، إنما فرضها علينا كي تكون
هي الأساس لهذا التعايش الذي يقتضيه الواقع.
لقد خلق الله _ عزّ
وجلّ _ البشر هكذا: متنوّعين، متعدّدين، ولو شاء سبحانه لجعلهم أمّة واحدة، {..
ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم ..}
ثم طلب منهم أن يتعارفوا، وأن يتعايشوا بهذا البرّ والقسط.
المرحلة
الثالثة: التعاون:
تتعارف أولاً مع غير
المسلمين ..
ثمّ تتعايش بمحبة
وانفتاح معهم ..
ثم .. أليس عندك
مسائل شرعية محددة؟ ..
هل يصعب أن تجد بعض
هذه المسائل الشرعية تحقّق مصلحتك، وفي نفس الوقت تحقّق مصالح غير المسلمين؟
إذا وقع الانسجام في
مسألة ما، فمن الممكن أن يقع التعاون، ما المانع في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه
وسلم _ كما نعرف جميعاً _ تحدّث عن "حلف الفضول" وكان ذلك في الجاهلية،
حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على مساعدة الضعيف، وإغاثة
الملهوف، ومساعدة المحتاج، إلى ما هنالك من مكارم الأخلاق، وحضره رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال في الإسلام بعد ذلك: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان
حلفاً ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت".
يجوز لنا إذاً أن
نلبّي دعوة لغير المسلمين، إذا كانت على أساس يرضي الله عزّ وجلّ، فإذا كانت لدينا
مسائل نعتبرها شرعية، وغير المسلمين يتبنّونها لأسباب أخرى، فإننا يمكن أن نتعاون
معهم على تحقيقها طالما أنها تعتبر مشروعة عندنا. وما أكثر أمثال هذه المسائل.
إذاً فالمراحل التي
تحدّد ملامح العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي: التعارف .. ثمّ التعايش على أسس
شرعية .. ثمّ التعاون على الأمور المتفق عليها المشروعة في ديننا.
ثانياً: الروابط الاجتماعية بين البشر:
أنتقل بعد ذلك إلى
ناحية أخرى في تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم.
خلق الله سبحانه
وتعالى البشر وأقام بينهم روابط متعددة، يتعاونون بها على شؤون الحياة، وحولها
يتلاقون.
من هذه الروابط:
أولاً : رابطة الإنسانية :
وهي التي تربط بينك
وبين كل إنسان على وجه الأرض، شئت هذا أم أبيت، فأنت من ذريّة آدم وهو من ذريّة
آدم، وأنت إنسان وهو إنسان كذلك. والإنسان مكلّف من عند الله بتكليف واحد، سواء
امتثل لهذا التكليف أم لا. ولذلـك تجد الكثير من آيات القرآن الكريم توجّه الخطـاب
للناس جميعاً: {.. يا أيها الناس ..}. وقد ورد لفظ (الناس) أكثر من مائتي مرة في
كتاب الله، فضلاً عن غيرها من الألفاظ التي تعبّر عن وحدة الجنس البشري، وتشير
بالتالي إلى وجود رابطة بين هؤلاء الناس، وهي التي نسمّيها الرابطة الإنسانية.
لأنها موجودة عند أي إنسان تجاه جميع الناس. هذه الرابطة بالنسبة لنا كمسلمين
ترتّب علينا واجبات وحقوقاً شرعية تجدها مفصّلة في كتب الفقه والأخلاق والدعوة،
ولا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.
ثانياً : رابطة القومية :
وهي أقوى من الرابطة
الأولى، فالإنسان يلتقي مع قومه _ وهم مجموعة من الناس _ على أمور أكثر من مجرّد
الرابطة الإنسانية. إنه يعيش عادة مع قومه، ويتكلّم بلسانهم، وله معهم مصالح
مشتركة، وبينه وبينهم في الغالب قواسم مشتركة كثيرة. ولا شكّ أنّ هذه الرابطة
موجودة ولها تأثيرها في واقع الفرد ودنيا الناس. ولذلك فقد ورد ذكر لفظ (القوم)
ومشتقّاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مرة.
ثالثاً : رابطة العائلة :
وهي تمتدّ على ثلاثة
دوائر:
الأولى: وتشمل الوالدين والأولاد والزوجة ومن
يسكن معهم من الأقارب في نفس الدار.
الثانية: تشمل سائر الأقرباء من العصبات
والنساء وذوي الأرحام.
الثالثة: تشمل سائر الأقرباء الذين ينتسبون إلى
جد واحد مهما كان بعيداً.
هذه الرابطة تترتّب
عليها آثار أكبر في حياة الإنسان، ولذلك خصّتها الشريعة بقدر كبير من الأحكام،
سواء ما يتعلّق بالأبوين والزوجة والأولاد، أو بالمحارم، أو بالمواريث، أو
بالعاقلة (وهم الأقرباء الذين يلتزمون بمساعدة أحدهم في دفع الدية إذا ارتكب جريمة
قتل خطأ)، أو غير ذلك.
رابعاً : رابطة المصلحة :
وهي التي تربط مجموعة
من الناس بمصالح مشتركة يريد كل واحد منهم الحفاظ عليها ودعمها، كالنقابات التي
تربط بين العاملين في مجال واحد، وقد لا يكون بينهم رابط آخر.
فهذا التعايش الدائم
والمصالح المتبادلة تولّد رابطة بينك وبين هؤلاء القوم.
خامساً : رابطة الإقامة :
فالذي يقيم في بلد ما
يشعر تجاه هذا البلد برابطة تشدّه إلى مكان إقامته الجديدة.
فالمسلم إذا أقام
ببلد غير إسلامي، والعربي حين يقيم في بلد غير عربي، والمسيحي حين يقيم في بلد
إسلامي _ غير بلده _ كل هؤلاء يشعرون برابطة خاصة تجاه بلد الإقامة الجديد، قد
يكون فيها شيء من الحب والاحترام، وقد تكون نوعاً من الحقد والكراهية بحسب
المعاملة التي يلقاها في هذا البلد الجديد. وهذه الروابط هي مشاعر فطرية بشرية
طبيعية.
سادساً : الرابطة
الإسلامية :
أما الرابطة
الإسلامية فهي التي تربط المسلم بأخيه المسلم، وهي تشمل كل من يقول: لا إله إلاّ
الله محمد رسول الله. إنها الرابطة العقائدية التي تهيمن على ما سواها من الروابط
جميعاً وتغلبها عند التنازع، لكنها مع ذلك لا تلغي أية رابطة منها على الإطلاق.
والإشكالية الحاصلة هنا هي أنّ بعض المسلمين يظنّ أنّ هذه الرابطة تلغي جميع
الروابط الأخرى ولا يعترف إلاّ بها، مع أنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. فالله عزّ
وجلّ يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد
في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
يقول القرطبي في
تفسير هذه الآية: (وفي الآية دليل على وجوب حبّ الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين
الأمّة، وأنّ ذلك مقدّم على كلّ محبوب). ومعنى ذلك أنّ حبّ الله ورسوله لم يلغ
أنواع الحب الأخرى، ولكنه يقدّم عليها فقط.
لقد أشارت الآية
الكريمة إلى رابطة الأبوّة والبنوّة والأخوّة والزوجية والعشيرة (القومية)
والمصالح المتمثّلة بالأموال والتجارة ورابطة المساكن أي الإقامة، واستعملت كلمة
(أحبّ إليكم)، فالله تعالى لم ينكر علينا هذه الروابط وما ينشأ عنها من حب، ولكنه
أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبّنا لله ورسوله، فالمطلوب أن يكون الحب لله
أكبر من أيّ حب آخر. وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبّه لله والتزامه بأحكام
شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى. أمّا إذا لم يقع التعارض فأنت تعيش وفي
قلبك حب لهذه العناصر الدنيوية طالما أنها لا تتعارض مع حبّك لله أو حبّك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم. إذاً لا بدّ أن ينشأ عن هذه الروابط التي أشار إليها ربّ
العالمين حبّ، لأنّ الإنسان يعيش مع الإنسان الآخر إمّا بحبّ أو ببغض. والحبّ
درجات والبغض درجات. فالحبّ قد يكون في أدنى الدرجات أو أعلاها، والبغض كذلك، ولا
يمكن أن يرتبط أي إنسان بآخر إلاّ بأحد هذين الشعورين بشكل من الأشكال.
هنا أجد من الواجب أن
أنتقل لتوضيح مسألة أخرى في غاية الأهمية، وخاصة بالنسبة لمن يعيش مع غير المسلمين
فأقول:
ثالثاً: حبّ المسلم لغير المسلم:
هل يجوز لمسلم أن
يشعر بحب نحو غير المسلمين؟ اسمعوا لقول الله عزّ وجلّ: {ها أنتم أولاء تحبونهم
ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه، وإذا رأوكم عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل
موتوا بغيظكم}.
المقصود بهذه الآية اليهود على رأي أكثر المفسّرين، والمنافقون على رأي بعضهم.
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (.. فأنتم إذا كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب
كلها، وتعلمون أنّ الذي نهيتكم عنه أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بجحودهم ذلك
كله، من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه، أولى بعداوتكم
إيّاهم وبغضائهم وغشّهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم ..). (.. وفي هذه الآية إبانة من
الله عزّ وجلّ عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان
ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما
حدّثنا بشر عن … قتادة
قوله: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه}، فوالله
إن المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له _ أي يرقّ له _ ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على
ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه).
ويقول السيد محمد
رشيد رضا في تفسير هذه الآية: (فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها، واصفاً المسلمين
بهذا الوصف، الذي هو أثر من آثار الإسلام، وهو أنهم يحبّون أشدّ الناس عداوة لهم،
الذين لا يقصّرون في إفساد أمرهم وتمنّي عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة، وما خفي
منها أكبر مما ظهر .. أليس حبّ المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين، وإقرار
القرآن إيّاهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أنّ
هذا الدين دين حبّ ورحمة وتساهل وتسامح، لا يمكن أن يصوّب العقل نظره إلى أعلى منه
في ذلك). وبعد كلام طويل يقول السيد رضا: (ونتيجة هذا كله: إن الإنسان يكون في
التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح، وقربه من
الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك، والله يقول لخيار المؤمنين: {ها أنتم أولاء
تحبّونهم ولا يحبّونكم}، فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا
..).
وإيّاك أن تفهم من
ذلك أنّ حبّك للمسلم هو كحبّك لغير المسلم، هناك فارق كبير، فالمسلم إنما تحبّه
لإيمانه بالله ورسوله، ولالتزامه بالعقيدة الصافية الصحيحة، حتى وإن لم تلقه، ولم
تكن بينك وبينه مصلحة، لأنك إنما تحبه لأجل الله الذي ربط الإيمان به بينكما، حتى
لو وقع بينك وبينه خلاف، فليس ذلك بمزيل لمحبّته من قلبك أبداً.
كما أنّه لا يمكن أن
يكون في قلبك حبّ لغير المسلم بسبب كفره، فهذا أمر محال، لكن قد يكون في قلبك حبّ
له لاعتبارات أخـرى. قد يكون صادقاً فتحبّ فيه صدقه، وقد يكون وفياً فتحبّ فيه
وفاء العهد، وقد يكون معك أميناً في التجارة فتحبّ فيه هذه الأمانة، وأنت تحبّ له
الهداية في كلّ الأحوال. هذه المشاعر قد توجد بينك وبين غير المسلم، وهي تختلف عن
الحب في الله الذي لا يمكن أن يكون إلاّ لإنسان مسلم، والذي يكون مجرّداً من كل
الاعتبارات الأخرى، بينما حب الكافر حين يوجد لا بدّ أن يكون مرتبطاً بأسباب أخرى.
وقد ورد في أسرى بدر من المشركين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان
المطعم بن عدي حياً ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له".
وهو دليل على وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي لدوره في حمايته
عندما عاد من الطائف، ولدوره في تمزيق صحيفة المقاطعة، وكان مشركاً في الحالتين.
هذا الشعور من النبي عليه الصلاة والسلام نحو المطعم يحمل في طيّاته نوعاً من
الحبّ الفطري لقيم الشهامة والشجاعة، وليس أبداً من نوع الحب العقائدي.
حبّ المسلم لزوجته الكتابية:
ومما يؤيّد هذه
الفكرة أنّ الله عزّ وجلّ أباح للمسلمين الزواج بالكتابيات كما هو معروف. وقد خلق
الله تعالى نوعاً من الحبّ والمودة بين الزوجين تكفل استمرار الحياة الزوجية، رغم
كل الإشكالات. قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها
وجعل بينكم مودة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}.
فالرجل المسلم يحبّ
زوجته الكتابية، والله تعالى هو الذي خلق هذه المحبة في قلبه، فهل يجوز أن ينهاه
عنها؟ أعني هل يمكن أن يباح للمسلم الزواج من كتابية ثم يطلب منه أن لا يودّها
ويحبّها؟ هذا غير معقول، فلو كان لا يجوز له مودّتها، لنهاه عزّ وجلّ عن الزواج
منها.
إذاً يمكن أن تكون
هناك مودّة بين المسلم وغير المسلم، ولكن ليس لكفره وضلاله _ معاذ الله _ ولكن
لاعتبارات أخرى مشروعة، منها رابطة الزوجية، فإن الزوجة ولو كانت كتابية تشارك
زوجها في كثير من المشاعر، ويمكن أن يتفاهما فيها معاً.
كما يمكن أن تكون
هناك مشاعر فطرية وروابط اجتماعية بين المسلم وغير المسلم، إذا وجدت مثل هذه
الاعتبارات المشروعة كالعهد والجوار والتعامل وغيرها. إنه إذا لم يكن هناك نوع من
المحبّة أو نوع من الاحترام أو الخلق الطيّب بينك وبين غير المسلم، فلا يمكن أن
تنجح في دعوتك أبداً. قال تعالى: {أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة،
وجادلهم بالتي هي أحسن..}.
هذا أساس من أسس
الدعوة، وهو أن يكون هناك حوار بالتي هي أحسن، وأن تكون هناك حكمة، وموعظة حسنة.
هذه كلها لا تتوفّر إلاّ بوجود مشاعر بين الداعي والمدعو، قد تسميها حباً باعتبار،
وقد تسميها مودة باعتبار آخر. وليس هو بلا شكّ من الحب في الله، وليس من المودة
التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه الكريم.
المودة المنهي عنها:
قال تعالى: {لا تجد
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
فالمودة التي نهى
الله عنها في هذه الآية هي لمن كفر وحادّ الله ورسوله، وليس فقط لمن كفر، بل هو من
زاد على كفره أنّه يحادّ الله ورسوله، ويحارب الإسلام والمسلمين، لكن لو افترضنا
أنّ هناك إنساناً كافراً غير محارب لله ورسوله، ولم يحادّ الله ورسـوله _ وقد
تتوفّر فيه بعض الصفات الطيّبة والقيم الراقية _ فلا بأس أن نقدّر فيه هذه الصفات
أو القيم أو الاعتبارات لأنها بقية من رصيد الفطرة عنده، وهي مقبولة من الناحية
الشرعية، بل إنّ الرسول صلىّ الله عليه وسلّم يجعل هذه القيم أساس رسالته حين
يقول: "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".
ذكر الشوكاني في
تفسيره
أن هذه الآية {لا تجد قوماً يؤمنون ..} نزلت في أبي عبيدة بن الجراح عندما قتل
والده في غزوة بدر، وقد أخرج ذلك ابن أبي حاتم والطبري والحاكم وأبو نعيم في
الحلية والبيهقي في سننه. وذكر القرطبي
مثل هذا القول عن ابن مسعود. كما ذكر أنّ هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة
لمّا كتب إلى أهل مكّة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم إليهم عام الفتح. وذكر من
سبب نزولها أو تفسيراً لها موقف أبي بكر عندما دعا ابنه عبد الله للمبارزة، وموقف
مصعب بن عمير عندما قتل أخاه عبيد بن عمير. وموقف عمر بن الخطاب عندما قتل خاله
العاص بن هشام، وموقف علي وحمزة عندما قتلا عقبة وشيبة والوليد. وكل هذه المواقف
تؤكّد أن المودّة المنهي عنها في هذه الآية هي لمن جمع مع الكفر المحاربة. يؤيد
ذلك ما سبق أن ذكرناه من جواز مودة المسلم لزوجته الكتابية وفق نص القرآن الكريم
لأنها لا يمكن أن تكون محاربة بسبب رباط الزوجية، فإذا حصلت الحرب منها فينبغي أن
تزول المودة لأنها تصبح غير مشروعة.
نستنتج من هذا أنّ
العاطفة يمكن ويجب أن تكون موجودة تجاه إنسان تريد أن تدعوه إلى الله عزّ وجلّ،
وهذه العاطفة هي جزء صغير من عاطفة الحب التي أرادها الله عزّ وجلّ خالصة له،
وأراد أن يكون الحبّ والبغض للناس الآخرين خالصاً أيضاً له سبحانه. هذا هو الأساس
الذي يعتبر أقوى من كل ما عداه، ويغلب كل ما عداه .. لكن يمكن أن يكون ضمن هذا
الحب الكبير جزء يبذل لغير المسلمين في حدود ما يرضي الله، إمّا عاطفة وإمّا
حواراً بالتي هي أحسن، أو موعظة، أو خدمة، أو تضحية، أو تعاوناً على أمر مشروع،
فهذه كلها جزئيات، لكن لا بدّ أن تكون موجودة لأنها تعبّر عن حقيقة الرسالة
الإسلامية التي جعلها الله {رحمة للعالمين} وتساعد على نجاح الدعوة إلى الله.
الإسلام جاء رحمة للناس جميعاً:
إذا أعلن الكافر
الحرب عليّ، فلا يمكن أن يكون في قلبي ذرة حبّ نحوه، لكننا نعيش – في بلاد الغرب - اليوم في وسط مسالم ولو كان مخالفاً لنا في
الدين، وعندنا رفاق وجيران من غير المسلمين، وقد يكون من بين هؤلاء من هو قريب
جداً منّا، وقد تشعر أيها الأخ المسلم بنوع من العلاقة بينك وبين هؤلاء، وقد تستحي
أو تتحرّج أن تسمّيها حباً أو مودة، إنه لا حرج في ذلك حسب الفهم الصحيح للآيات
التي مرّت بنا وفق أسباب نزولها، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فهذه عواطف لا علاقة لها بالإيمان، وإنما هي عواطف متصلة باعتبارات مشروعة بالنسبة
لنا نحن المسلمين، ومثل هذه الاعتبارات المشروعة، قد تنشأ عنها عواطف فطرية، وهذه
لا يمكن ولا يتصوّر أن تتعارض مع الحبّ في الله، فضلاً عن أن تتغلّب على ذلك الحب
الذي يعتبر أصلاً من أصول الإيمان. إن أوثق عرى الإيمان هو: الحب في الله والبغض
في الله. ومما يؤكّد مشروعية هذه العواطف أن الله عزّ وجلّ أرسل رسوله محمداً صلى
الله عليه وسلم رحمة للعالمين
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لن تؤمنوا حتى تراحموا. قالوا يا رسول
الله كلّنا رحيم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة
عامة". وقال أيضاً: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وهل الرحمة تجاه الناس جميعاً إلاً نوعاً من العاطفة؟!
الحب الفطري والحب العقائدي:
من كل ما تقدّم
يتبيّن لنا أنّ هناك نوعين من الحبّ. حبّ فطري وحبّ عقائدي.
w
الحب
الفطري: وهو أثر من آثار
الشهوات. قال تعالى: {زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة
الدنيا والله عنده حسن المآب}.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "حُبّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء،
وجعلت قرّة عيني في الصلاة".
يقول
الإمام الغزالي عن هذا النوع من الحب: (هو حبّ بالطبع وشهوة النفس، ويتصوّر ذلك
ممّن لا يؤمن بالله. إلاّ أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً، وإن لم يتصل به
غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذمّ). فالحب الذي نتحدّث عنه مع غير المسلمين
لا يكون إلاّ من هذا النوع الفطري. فقد تحبّ امرأة غير مسلمة لجمالها أو خلقها.
هذا أمر فطري، ويكون مذموماً إذا اتصل به أمر حرام كالخلوة أو الاختلاط المحرّم أو
الزنى، ويكون مباحاً إذا اتصل به غرض مباح كالزواج. وقد تحبّ إنساناً غير مسلم
لحسن خلقه، أو كمال عقله، أو لقرابة بينك وبينه، أو لمصلحة لك عنده، أو لألفة
بينكما أو غير ذلك. فإذا لم يتصل بهذا الحب أمر مذموم فهو مباح، وعلى المسلم أن
يستفيد من هذا الحب في دعوة هذا الإنسان إلى الله تعالى. كما ورد عن عبد الله بن
عبد الله بن أبيّ، الصحابي الصالح الذي كان أبوه منافقاً، وكان يحبّه لأنه والده،
ويحبّ له الهداية، والرسول يأمره بحسن معاملة أبيه رغم نفاقه، لكن هذا الحب الفطري
لم يدفعه للانتصار لأبيه ضدّ المسلمين، ولو حصل ذلك لكان حباً مذموماً، ولكنه
انتصر للإسلام ضدّ أبيه كما هو معلوم.
w
الحب
العقائدي: وهو حب الله
ورسوله، والحب في الله ولله. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان، وجزء من عقيدة المسلم.
وبه يتعلّق التكليف الشرعي. لأنّ واجب المسلم أن يحب أخاه المسلم ولو لم يكن
بينهما تناسب أو انسجام أو قرابة أو مصلحة، بل يحبّه لأنّه مسلم. ولذلك اعتبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حلاوة الإيمان "أن يحب المرء لا يحبّه إلاّ
لله".
وتحدّث عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه ومنهم: "رجلان تحابّا في الله،
اجتمعا عليه وتفرّقا عليه".
وقال: "لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا ..".
ومثل هذه الأحاديث كثير.
هل يعتبر غير المسلمين (إخوة):
وقد يتحرّج بعض
المسلمين من اعتبار غير المسلمين إخواناً لنا، وإذا استعمل البعض كلمة إخواننا
النصارى، ترى الكثير من الشباب المسلم يهيج ويثور قائلاً: كيف تسمّون النصارى
إخواناً لنا والله عزّ وجلّ يقول: {إنّما المؤمنون إخوة}.
إنهم يفهمون من هذه
الآية أنّ الأخوّة محصورة بين المؤمنين، ولا يمكن أن تشمل غيرهم، وهذا ليس صحيحاً،
للأدلّة التالية:
1. لقد وصف الله عزّ وجلّ الأنبياء بأنهم إخوة
لأقوامهم الكفّار. قال تعالى:
-
{وإلى
عادٍ أخاهم هوداً}.
-
{وإلى مدين أخاهم شعيباً}.
-
{وإلى
ثمود أخاهم صالحاً}.
وقال
تعالى:
-
{إذ
قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون؟}.
-
{إذ
قال لهم أخوهم هود ألا تتقون؟}.
-
{إذ
قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون؟}.
هؤلاء
الأنبياء: نوح وهود وصالح وشعيب، اعتبرهم الله إخواناً لأقوامهم، فهذا تصريح من
القرآن بوجود أخوّة قومية رغم اختلاف الدين.
2. وقد أبقى الله تعالى وصف الأخوّة حتّى مع
الإنسان الكافر المحارب، وذلك في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم
الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم ..}.
فالأخوّة الإنسانية موجودة، والأخوّة القومية موجودة، والأخوّة النسبية موجودة،
وقد يكون معها أخوّة الإسلام فتزداد قوّة ومتانة، وقد لا يكون معها أخوّة إسلامية،
فتبقى كل أنواع هذه الأخوّة إلى جانب بعضها، وعند التعارض يغلّب المسلم أخوّته
الإسلامية على كل ما عداها.
أمّا الآية الكريمة
{إنّما المؤمنون إخوة} فمعناها أنّ العلاقة بين المؤمنين لا يمكن أن تكون إلاّ
علاقة أخوّة في الله، ولكنها لا تحصر الأخوّة فقط بين المؤمنين. إذ الأخوّة قد
يكون لها سبب آخر بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد تكون أخوّة قومية أو أخوّة
بشرية أو قد تكون صداقة مبنية على المصالح المشروعة.
ومن جهة أخرى فقد
تكون العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين حرباً أو عداوة أو أحقاداً، أمّا بين
المسلمين فالعلاقة ينبغي أن تكون دائماً قائمة على الأخوّة في الله.
إذا نظرنا إلى هذه
الآية في ضوء الآيات الأخرى، فإننا نتوصّل إلى النتيجة التالية: أنّ كل هذه
الروابط البشرية روابط فطرية، غير أنّ أقوى رابطة تربطني ببشر هي رابطة الأخوّة في
الله، وهذه لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها أو الاستحياء منها.
لكن هذه الرابطة
القوية ليست وحيدة ولا تمنع أن يكون بيني وبين غير المسلمين أخوّة من نوع آخر،
أقدّر فيها القرابة النسبية أو القومية أو الإنسانية، فهذه لها قدرها وتلك لها
قدرها، والذي يغلّب واحدة على أخرى عند التعارض أمر الله تعالى وشريعته.
مع أرق وخالص تحياتي