حكم الإسلام في الغناء
قال اللَّه تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 6 ، 7 ] .
جاء في كتاب (( إغاثة اللهفان ))(1) لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره :
قال ابن القيم رحمه اللَّه : ومن مكايد عدو اللَّه ( إبليس ) ومصايده ، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين : سماع المكاء والتصدية(2) والغناء بالآلات المحرمة ، الذي يصدُّ القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان . فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن الرحمن ، وهو رقية اللواط والزنى ، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى ، كاد به الشيطان النفوس المبطلة ، وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا ، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورًا .
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه ، في تحريم السماع : الحمد لله رب العالمين ...
1- أما مالك : فإنه نهى عن الغناء ، عن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية ! كان لها أن يردها بالعيب .
وسئل مالك رحمه اللَّه عمَّا يرخص فيه أهل المدينة من الغناء ؟ فقال : إنما يفعله عندنا الفساق .
2- قال : وأما أبو حنيفة : فإنه يكره الغناء ، ويجعله من الذنوب .
وكذلك مذهب أهل الكوفة : سفيان ، وحماد ، وإبراهيم ، والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ، ولا نعلم خلافًا أيضًا بين أهل البصرة في المنع منه .
قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب ، وقوله فيه أغلظ الأقوال ، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها ، كالمزمار ، والدف ، حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية ، يوجب الفسق ، وترد به الشهادة ، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : إن السماع فسق ، والتلذذ به كفر ، هذا لفظهم ورووا حديثًا لا يصح رفعه .
قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في ألا يسمعه إذا مر به ، أو كان في جواره .
وقال أبو يوسف : في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي : أدخل عليهم بغير إذنهم ، لأن النهي عن المنكر فرض ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض .
قالوا : ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره ، فإن أصرَّ حبسه أو ضربه سياطًا ، وإن شاء أزعجه عن داره(3) .
3- وأما الشافعي : فقال في كتاب (( أدب القضاء )) : إن الغناء لهو مكروه ، يشبه الباطل والمحال ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه ، وأنكروا على من نسب إليه حله ، كالقاضي أبي الطيب الطبري ، والشيخ أبي إسحاق والصباغ .
قال الشيخ أبو إسحاق في (( التنبيه )) : ولا تصح - يعني الإجارة(4) - على منفعة محرمة ، كالغناء والزَّمر ، وحمل الخمر ، ولم يذكر فيه خلافًا .
وقال في (( المهذب )) : ولا يجوز على المنافع المحرمة ، لأنه محرم ، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم .
فقد تضمن كلام الشيخ أمورًا :
أحدها : أن منفعة الغناء بمجرده محرمة .
الثاني : أن الاستئجار عليها باطل .
الثالث : أن أكل المال به أكل مال بالباطل ، بمنزلة أكله عوضًا عن الميتة والدم .
الرابع : ألا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ، ويحرم عليه ذلك ، فإنه بذل مال في مقابلة محرم ، وإن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة .
الخامس : أن الزَّمر حرام ، وإذا كان الزمر - الذي هو أخف آلات اللهو - حرامًا فكيف بما هو أشد منه ؟ كالعود ، والطنبور ، واليراع . ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك ، فأقل ما فيه : أنه شعار الفساق وشاربي الخمور .
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته :
القسم الثاني : أن يغني ببعض آلات الغناء ، بما هو من شعار شاربي الخمر ، وهو مطرب كالطنبور(5) والعود ، والصنج(6) وسائر المعازف ، والأوتار . يحرم استعماله واستماعه . قال : وفي اليراع وجهان : صحح البغوي التحريم .
ثم ذكر عن الغزالي الجواز ، قال : والصحيح تحريم اليراع وهو الشَّبَّابة .
وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابًا في تحريم اليراع .
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع ، الذي جمع الدف والشبابة ، والغناء ، فقال في (( فتاويه )) :
وأما إباحة هذا السماع وتحليله ، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت ، فاستماع ذلك حرام ، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين . ولم يثبت عن أحد - ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف - أنه أباح هذا السماع ، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة ، والدف منفردًا ، فمن لا يحصِّل ، ولا يتأمل ، ربما اعتقد خلافًا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي ، وذلك وهم بيِّن من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل ، مع أنه ليس كل خلاف يُستروح إليه ، ويعتمد عليه ، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء ، وأخذ بالرخص من أقاويلهم ، تزندق أو كاد . قال : وقولهم في السماع المذكور : إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين ، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [النساء : 115].
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين هما بلاء الإسلام منهما ، المحللون لما حرم اللَّه ، والمتقربون إلى اللَّه بما يباعدهم عنه .
والشافعي وقدماء أصحابه ، والعارفون بمذهبه : من أغلظ الناس قولاً في ذلك .
وقد تواتر عن الشافعي أنه قال : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة ، يسمونه التغبير - يعني الضرب بالقضيب على المخدة من الجلود حتى يطير الغبار ، وكان الصوفية يفعلون ذلك مع إنشادهم الأشعار الملحنة - ، يصدون به الناس عن القرآن .
فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله : أنه يصد عن القرآن ، وهو شعر يزهد في الدنيا ، يغني به مغن ، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع - يعني بساط من الأديم أي الجلد - أو مخدة على توقيع غناه ، فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر ، قد اشتمل على كل مفسدة ، وجمع كل محرم ، فاللَّه بين دينه وبين كل متعلم مفتون ، وعابد جاهل .
قال سفيان بن عيينة : كان يقال : احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون .
ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين .
يتبع باذن الله